كلما تخيلنا أن المسرح المصرى يلفظ أنفاسه ويغلق أبوابه ويقول وداعاً للجدية، وكلما قلنا إن أبا الفنون فى مصر صار غريباً، يفاجئنا الشباب بأنهم ما زالوا يعافرون ويتمردون ويقدمون مسرحاً جاداً وجميلاً ومضيئاً، فعلى مسرح السامر، الذى تم تجديده على أفضل مستوى، وهو الذى يقع فى مكان متميز على النيل، أجمل بقعة فى مصر.تم تقديم مسرحية «المغامرة»، من إخراج المخرج الرائع المخضرم المتجدد دائماً المغامر بإصرار ومثابرة مراد منير، المسرحية عن مغامرة رأس المملوك جابر، للكاتب المسرحى السورى الراحل سعد الله ونوس، الذى يعشقه المخرج مراد منير، وأغلبنا يتذكر رائعته «الملك هو الملك»، التى قدمها مراد منير بصلاح السعدنى ومحمد منير وفايزة كمال، وكانت حديث الشارع فى وقتها ونجحت نجاحاً مبهراً، هذه المرة ليس هناك نجوم بالمعنى التجارى المعروف للممثلين، ولكنى أستطيع أن أقول ودون مبالغة إننا أمام مشاريع نجوم مستقبلية وطاقات تمثيلية هادرة ستضيف إلى فن الإبداع المصرى الكثير والكثير، منهم يوسف مراد منير وليلى مراد وغيرهما من نجوم العرض، المسرحية فيها جهد إعداد كبير من المخرج لكى يمنحها الطابع المعاصر بإسقاطات على الواقع العربى.وهذا جمال أعمال «ونوس» أنها على الرغم من أنها تنتمى لحكايات عربية تراثية، فإنها نافذة على الواقع والحالى دوماً، القصة تدور فى بغداد، وخلاف دامٍ ما بين الوزير والخليفة، ينتظر نتيجته الأعداء المتربصون بمقدرات هذا البلد، الوزير يريد إرسال رسالة لكى ينضم المتربصون إلى صفه ضد الخليفة، لكن الرقابة الصارمة على الحدود تجعل من إرسال تلك الرسالة مغامرة انتحار، وتجعل حاملها ضحية مزمنة، تأتى للمملوك جابر فكرة جهنمية وهى أن يحلق شعر رأسه وتُكتب الرسالة على رأسه ثم يغطيها الشعر ويهرب بها من أعين الحراس، وبالفعل نجحت الفكرة الذكية، ولكن الثمن كان رأس جابر نفسه الذى قُطع بعد فك شفرة الرسالة.وسقطت بغداد تحت سنابك خيل تتار العصر وهمج هذا الزمن، كان الكل مغيباً ما بين السعى خلف لقمة العيش والتخدير بالدخان الأزرق واجترار الماضى والعيش فى الأساطير، ضاعت بغداد وقُتل المملوك ولم يربح الخليفة أو الوزير، لم يربح إلا الضبع المتربص على الحدود، الذى التهم الفريسة بمجرد نزف الجرح.مسرح السامر مشروع تنويرى عظيم يقدم عروضه مجاناً لجمهور متعطش لكل ما هو جاد وحقيقى ويحمل رسالة ومعنى.