عندما أرسلت لى كلية طب قناة السويس الدعوة للحديث فى ندوة تدريس الإنسانيات من فلسفة وعلم نفس وفن، كان أول سؤال طرحته على نفسى لماذا؟، وما أهمية تدريس تلك الإنسانيات؟، كانت الإجابة حتى لا يخرج منها أيمن الظواهرى آخر، وحتى لا يصبح الطبيب مجرد ميكانيكى تصليح بنى آدمين؟، أحسست أهمية تلك الإنسانيات حين تذكرت قصتى فى الكلية «الكبد ده كويس وكبير قوى.. الطحال ده محسوس جداً.. اللغط اللى فى القلب ده هايل مش هتسمع زيه فى حياتك.. حالة الاستسقا دى رائعة فيها كل الـ(signs)».. كل هذه الكلمات وغيرها كنت أسمعها داخل حجرات الدرس وعلى ألسنة الأساتذة والمدرسين فى كلية الطب. كنت أتسابق كزملائى كى أضع يدى على كبد المريض، وأخترق الصفوف لكى تصل سماعتى لمكانها الصحيح على صدر المريض وأسمع بوضوح، يتزاحم حشد الطلبة التتار حول المريض الممدد على سرير الكشف عارياً من كل شىء إلا من خوفه وقلقه، يفحصون، أو بالأصح يفعصون، الحالة، فهذا الغلبان هو عندنا مجرد حالة.. رقم.. باسبور للمرور من محنة الشفوى، نظل نفعص ونفعص ونلغوص دون أن نخطئ ولو مرة وننظر إلى ملامح وجهه أو نتساءل عن اسمه أو نبتسم له، هذا إذا رأيناه أصلاً أو حتى نحترم رهبته من الموقف وفزعه من المستقبل. فلا فرق بينه وبين جثة المشرحة، اللهم إلا أن الأول يغرق فى رائحة عرقه، أما الجثة فغارقة فى الفورمالين، ينفض الجميع من حول الـcase أو الحالة، يحاول هو أن يستوقفنا بسؤاله الخجول جداً والمشروع جداً: حالتى إيه يا دكاترة؟ هخف ولا لأ؟ لا نرد، وكأنه يتحدث إلى خواء، ونواصل خطواتنا الهستيرية السريعة لنلحق بميعاد السكشن التالى، يكتنفه البرد، برد الوحدة والحيرة والتجاهل وغموض المصير، يعود إلى عنبره لاعناً الحظ الذى أفقر جيبه فجرجره الأبناء المكدودون المحبطون إلى هنا، حيث سيعيش كفأر تجارب لطموحات ودكتوراهات وعقد وإحباطات أصحاب البلاطى البيضاء. نكبر نحن الأطباء ونختزل الطب إلى مجرد مصطلحات لاتينية وخط منعكش ويافطة نيون وأكل عيش وأقساط عربية ودفاتر ضريبية وعيون مدربة على التقاط عروض مكاتب التوظيف الخليجية ولف على المستوصفات وتحويل المريض إلى زبون، من الممكن أن نكون قد اكتسبنا حقاً مهارة التشخيص، لكننا فى الغالب افتقدنا الأهم وهو إنسانية المشاركة، فالمريض أصبح بالنسبة إلينا، بفضل التعليم الطبى، أعضاء منفصلة؛ قلب وفشة وطحال وكبد ومعدة.. إلخ، وأصبحنا نحن الوكلاء الوحيدين لقطع غياره، فنغير أنسجته كما نغير الفلتر والزيت، ونضبط السكر وكأننا نضبط الزوايا، ونجرى التحاليل والأشعات على طريقة العمرة الكاملة!! فقدنا فى تعليمنا الطبى النظرة التكاملية للمرض وللإنسان، أخذتنا التفاصيل والجزئيات، استغرقتنا عما هو أهم وأشمل، عن الإنسان فى عمومه، عن تفاعل هذه الجزئيات فيما بينها وعن تفاعل هذا المريض مع مجتمعه، وأتساءل: هل حقاً تعلمنا الطب أم تعلمنا ميكانيكا تصليح البنى آدمين؟! هل المستشفيات التى نعمل فيها مراكز للعلاج الإنسانى أم هى مجرد مراكز لصيانة وتوكيلات قطع غيار آدمية؟! وهل لكى أكتسب لقب طبيب لا بد أن أتخلى عن لقب الحكيم الحبيب وأبنى جداراً من زجاج سميك بينى وبين المريض، وأستعير أمامه قناع الجبس البارد؟! حتى هذه اللحظة ما زلت لا أمتلك شجاعة الإجابة، لكنى أحس الآن أكثر من أى وقت مضى أهمية أن يتعلم الطبيب تذوق الفن والإحساس بالموسيقى وقراءة السينما والمسرح والأدب، لكى يعالج المريض قبل المرض.