الجدل الذى ثار فى وسائل الإعلام حول مادة الأفاستن التى تحقن فى عيون مرضى الشبكية، والتى تنقذ عشرات الآلاف من المرضى المصريين، خلق فيضاناً من المعلومات المغلوطة والجهل المركب الذى سيؤدى فى النهاية -كما هو السائد فى القرارات المصرية الانفعالية- إلى منع هذه المادة المهمة التى سيؤدى منعها إلى حرمان المريض المصرى الغلبان من تلك الحقن فيصاب بالعمى نتيجة ضيق ذات اليد وعدم استطاعته دفع ثمن البديل باهظ الثمن الذى له نفس فاعلية الأفاستن، لكن الفرق هو أن المنافس الغالى يأتى جاهزاً فى عبوات صغيرة، كل المشكلة كانت خللاً فى التعقيم وليس خللاً فى المادة المحقونة.. ذهبنا لنأخذ رأى المختصين من أساتذة العيون والشبكية، وكانت البداية مع د. جهاد النهرى، أستاذ طب وجراحة العيون، الذى أجاب على هذه الأسئلة المثارة وحسم الجدل شارحاً بطريقة «سين وجيم»: ■ ما هو الأفاستن (Avastin (bevacizumab؟ - مادة تمنع نمو الأوعية الدموية عن طريق منع عمل مادة طبيعية داخل الجسم تشجع هذا النمو اسمها Vascular endothelial growth factor VEGF ■ ما قصة استخدامه عموماً؟ - أول استخدام كان فى منع نمو الأورام السرطانية خاصة سرطان القولون، والمعلوم أن الأورام السرطانية تفرز مادة VEGF بغزارة لتمد نفسها بالأوعية الدموية فيستطيع الأفاستن منع وصول الدم إلى الورم السرطانى. ■ ما علاقته بالعيون؟ - تفتق ذهن بعض الأطباء عن أن استخدام المادة يمكن أن يساعد فى معالجة بعض الأمراض التى تعتمد فى ظهورها على مادة VEGF، وبالفعل ثبت نجاح الدواء وحقق نتائج باهرة فى العديد من الأمراض المعضلة التى تصيب العين لدرجة أن استعماله انتشر فى أوروبا انتشار النار فى الهشيم وظل الأطباء الأمريكيون ينظرون بحسرة إلى نظرائهم الأوروبيين حتى اضطروا اضطراراً إلى استعمال الأفاستن لنتائجه المبهرة التى لا يمكن إنكارها، ويسمى هذا الاستعمال «استعمال خارج اللافتة off-label» لم تجرؤ منظمة الأدوية الأمريكية FDA على منع استخدامه. ■ أين المشكلة؟ - المشكلة فى القيمة الاقتصادية للاكتشاف الطبى.. من يصنع الأفاستن شركة جيننتك Genentech الأمريكية التى اشترتها شركة روش السويسرية، وقيمة الأمبول توازى ٢٧٠٠ جنيه مصرى لكنه يكفى لحقن ٣٠ مريض عيون، فى نفس الوقت كان هناك شركة أمريكية أخرى تعمل على عقار مشابه للأفاستن اسمه لوسنتس Lucentis ranibizumab فقامت جيننتك بشراء هذه الشركة بمليارات الدولارات لتحتكر هذه النوعية من الأدوية، عند شراء هذا الدواء (اللوسنتس) أصبح من مصلحة جيننتك وروش ألا يتم استعمال دوائها أفاستن فى العيون لأنها تريد تسويق اللوسنتس الذى اشترته بمليارات الدولارات لدرجة أنها فكرت فى إضافة مادة ملونة سمية إليه لتمنع حقنه فى العين ولكن أطباء العيون الأمريكيين تصدوا لها وتتكلف الحقنة الواحدة للوسنتس أربعة آلاف جنيه فى مقابل مائة جنيه للأفاستن، إذن اللعبة واضحة: شركة تملك دواءين أحدهما يكلف المريض ١٠٠ جنيه وربحها فيه محدود والآخر ٤٠٠٠ جنيه كلها فى جيب الشركة. فماذا تفعل الشركة؟ لجأت إلى منظومة القوانين الأمريكية التى تمنع شركات التأمين من دفع ثمن عقار إلا لو كان مسجل فى هذا الاستخدام فى منظمة الأدوية الأمريكية، وأجرت دراساتها على اللوسنتس فقط وأخذت موافقة استخدامه من منظمة الأدوية فأدرج فى كشوف التأمين الصحى ولم يدرج الأفاستن لأن الشركة لم تُجرِ له دراسات مماثلة، ثم حاولت الشركة مع آخرين عمل دراسات عديدة لمحاولة إثبات أن كفاءة اللوسنتس أعلى من كفاءة الأفاستن حتى تشجع الأطباء على استعماله فلم تفلح أى دراسة فى إثبات ذلك واستمر الأطباء فى جميع أنحاء العالم فى استخدام الأفاستن لرخصه. ■ ما أثر ذلك على مصر؟ - يستخدم الأفاستن فى علاج العديد من الأمراض، خاصة الرشح السكرى بالشبكية ويحتاج المريض من ٣ إلى ٩ حقنات سنوياً تتكلف للفقير من ٦٠٠ إلى ١٨٠٠ جنيه سنوياً (٥٠: ١٥٠ جنيهاً شهرياً) بينما يتكلف العلاج باللوسنتس من ١٢ ألفاً إلى ٣٦ ألف جنيه (١٠٠٠: ٣٠٠٠ شهرياً) فإذا ضربنا المتوسط [٢٤ ألف -عدد المرضى السنوى «٣٠٠ ألف على الأقل»] فإن تكلفة الحقن على وزارة الصحة والتأمين تكون ٧ مليارات جنيه من موازنة الصحة لهذا العقار فقط الذى لا يقدم أى ميزة على الأفاستن الذى يتكلف ٣٠٠ مليون سنويا فقط. ■ أين المشكلة؟ - بعض الناس يحلو لهم المزايدة على المضاعفات الطبية المعروفة ويجهلون الفرق بين الخطأ الطبى والمضاعفات، ويجرى وراءهم أطباء يتولون مناصب عليا وصحافة وإعلام بدون وعى أو إدراك، والثمن تدفعه مصر دائماً. ■ ■ ■ ثم طرحنا على د. خالد الرخاوى، أستاذ أمراض الشبكية بقصر العينى، سؤالين حول أن استخدام دواء الأفاستن فى علاج أمراض الشبكية غير موجود فى نشرة الدواء الداخلية «البامفليت» وهو ما يسمى بـ off label، والسؤال الثانى حول ما هو الحل؟ أجاب د. الرخاوى قائلاً: ما يطلق عليه «off label use» هو استخدام الدواء الذى تم ترخيصه لعلاج مرض معين فى علاج مرض آخر لم يتم ذكره فى النشرة الدوائية المرفقة مع الدواء، هذا الاستخدام غير قاصر على الأفاستن على الإطلاق فمثلاً فى مجال طب العيون جميع الأدوية التى يتم حقنها بداخل العين لعلاج الـendophthalmitis هى أدوية تستخدم off label وكذلك الكورتيزون سواء الـdecadron أو الـtrimcinolone، وكذلك جميع مضادات الفطريات مثل amphotricin B بل إن مجرد الحقن الروتينى لمضاد حيوى مثل الجراميسين تحت الملتحمة هو off label فهو غير مذكور فى نشرة الدواء ولذلك فإن الدواء الـoff label بكل تأكيد: - استخدامه لا يشكل خطأ طبياً ما دام مدعوماً بدراسات إكلينيكية منشورة وذات مصداقية. - استخدامه لا يوجد به أى خطأ قانونى فى مصر طالما هو مسجل فى وزارة الصحة حتى لو كان التسجيل لعلاج مرض آخر. - هذه هى الممارسة المعتمدة فى جميع الأنظمة الصحية فى العالم (عدا بعض الأنظمة الصحية القليلة والنادرة والتى تمنع استخدام الدواء الـoff label إلا إذا لم يكن هناك بديل متوافر). وبالنسبة لدواء الأفاستن بالذات وموضوع الـoff label use فإن: ١- الدراسات العلمية المعتمدة والمنشورة والصادرة عن أعلى الهيئات والمراكز البحثية متوافرة بكثرة طاغية. ٢- الدواء حالياً متوافر فى السوق المصرية (ولم يكن هذا هو الحال حتى سنوات قليلة مضت) وهذا يدل على أنه حاصل على تسجيل من وزارة الصحة للاستخدام فى مجال آخر. ٣- الأغلبية الساحقة من دول العالم المتقدم تستخدم الأفاستن بنسبة أكبر كثيراً من الأدوية الأغلى بل إن شركات التأمين الطبى تقوم بسداد ثمن الأفاستن للمستشفيات حتى فى أمريكا نفسها ولا تشترط موافقة الـFDA، بل إن شركات التأمين فى بلد متقدم مثل هولندا قد امتنعت عن سداد ثمن الدواء الأغلى Lucentis إلا فى أضيق الحدود وبسبب طبى واضح مثل ضرورة التغيير بين الأدوية، وفى المجر تم منع الدواء الأغلى نهائياً لاعتبارات التكلفة. الخلاصة فى هذه النقطة هى أن الاستخدام الـoff label ليس خطأ طبياً وليس خطأ قانونياً. وفى حالة الأفاستن هو الاستخدام الأوسع انتشاراً فى العالم كله. أما عن عملية تقسيم الدواء، وهى المشكلة التى نتج عن الخلل فيها مشكلة مستشفى رمد طنطا، فيقول د. الرخاوى: فى جميع مستشفيات العالم تكون عملية تقسيم الدواء (الأفاستن، وغيره) هى مسئولية قسم الصيدلة بالمستشفى وهذا القسم هو أفضل من يقوم بهذا العمل الفنى البسيط إذا ما توافرت لديه وسائل التعقيم الكافية لضمان عدم التسبب فى العدوى بينما فى مصر لا يوجد هذا النظام إما لعدم توافر الصيدلى المدرب أو لعدم توافر الأجهزة laminar air flow مثلاً أو لعدم ترحيب الصيدلى بالقيام بهذا العمل إما لاعتقاده أنه ليس من واجباته أو لرغبته فى تجنب المسئولية القانونية، والحل فى مصر ممكن ولكن فقط إذا خلصت النوايا، والذى يمكن اقتراحه هو أن تقوم هيئة المصل واللقاح نفسها بعملية تقسيم الدواء فى معاملها ثم بيعه للمستشفيات أو للأطباء كما يحدث مع الأمصال واللقاحات، والحل الموازى هو أن يتم الترخيص لعدد معقول من المستشفيات التى بها إمكانيات فنية وصيادلة يقومون بتقسيم الجرعات وتخضع تلك الأماكن بالمستشفيات للإشراف المعتاد لإدارة منع العدوى ويمكن عمل حافز مادى للصيدلى الذى سوف يتولى مسئولية هذه المهمة لتعويضه عن المخاطر التى قد يتعرض لها فى حالة حدوث أى خطأ، مع التأمين عليه ضد احتمال مثل ذلك الخطأ كما يحدث مع التأمين المهنى للأطباء.. وعندها سيكون المستفيد فى هذه الحالة هو المريض الذى حصل على علاج آمن ورخيص نسبياً وسيتم تعويضه من التأمين فى حالة وجود خطأ (نادر الحدوث أصلاً)، وسيستفيد الوطن المنهك مالياً فمصر ليست أغنى من أمريكا أو ألمانيا أو هولندا. قد يمكننا، بالتعاون، أن نجعل الأزمة الحالية فرصة إصلاح، ولكن -و أكرر- إذا خلصت النوايا، وهو ما يجب أن نفترضه ونتعشمه حتى يثبت العكس.