كنت قد طرحت علامة استفهام مؤرقة، وهى: «كيف لطلاب ما يسمى كليات القمة أن يقعوا في فخ جماعات الإرهاب بتلك البساطة والسهولة، بل يصبح منهم أشرس أعضاء الجماعة وأعنفهم؟».. أرسلت د. سهير الدفراوى المصرى رسالة تشير بأصابع الاتهام إلى منهج وأسلوب التعليم، أسلوب الصح اليقينى والمؤكد والإجابة النموذجية التي لا يرقى إليها الشك، والثقة العمياء التي يزرعونها عبر كتب الوزارة، التي هي كالكتب المقدسة، مما يسهل بعد ذلك غسل الدماغ من أمراء إرهاب يؤلفون هم أيضاً ما يعتبرونه كتباً مقدسة!!، تقول د. سهير في رسالتها: بعد عودتى إلى مصر كنت أتناقش مع حامل شهادة دكتوراه في موضوع علوم إنسانية قريب من اختصاصه، فوجدته يقدم لى حججًا لما يقول ويؤكد بثقة تامة أن السبب هو 1 و2 و3 و4، أذكر أننى استغربت من ثقته أن السبب هو 1و2و3و4، وليس 1و2و3و4و5 أو1و2و3، وقلت لنفسى «هل هو يُسمع ما حفظ؟»، وخزنت هذه الملاحظة في ذهنى على أنها شىء لا أفهمه، وبمرور الوقت وجدت أن هذه ليست حالة فريدة: فالناس كثيرًا ما تُسمّع معلومات حفظتها!! المعلومات في ذاكرتها معروفة ومنمرة ومُتأكد منها! هناك ثقة تامة في المعلومات. هذه الثقة التامة كانت غريبة على، لقد عشت في مجتمع لم ألاحظ فيه ظاهرة الثقة التامة في المعلومات، وعندما كنا نتناقش كانت ثقتنا في معلوماتنا نسبية، ثقة قد تزيد أو تنقص نتيجة للمناقشة، فمثلاً إذا كنا نتناقش في حل للتعليم، وكنت أثق بنسبة 80% في الحل الذي أقدمه، قد أجد بعد المناقشة أن ثقتى في الحل قد زادت إلى 90% أو قد نقصت إلى 40% وأصبحت لا أثق أنه أفضل حل، ومع النسبية في الثقة في المعلومة كانت هناك مرونة في التعامل معها. ثقتنا فيما نعرف كانت ديناميكية وتتغير، وكنا لا نجد حرجًا من أن نعترف أننا لم نكن على حق، أو أننا اقتنعنا بوجهة نظر الآخر. وأذكر أن مصر التي عشت فيها منذ 40 سنة لم تكن تختلف عن المجتمعات الأخرى، بينما مصر الحالية هي التي ظهر فيها شىء مختلف، ظهرت فيها فئة متأكدة من معلوماتها تأكدًا تامًا، وهى بالتالى لا تقتنع ألبتة برأى الآخر!!، ماذا حدث؟ وبدأت أدون ملاحظاتى من الردود التي كانت تصلنى على المدونة، ومن معاملاتى مع شبابنا عن طريق مؤسسة التعليم والثقافة للطفل والعائلة التي أشرف عليها، فبجانب الشباب المصرى الذي نشتكى من فهلوته وعدم جديته، لاحظت فئة جديدة: شباب (وشابة واحدة)، مسلم، جاد، ذكى، كان مجتهدًا في الدراسة، متدينًا، لديه مثل عليا، يعتز بنفسه، وكثير منهم يعتقد أنه هو الوحيد الذي يفهم، يرى العالم من منظار أبيض وأسود، والأسئلة عنده لها إجابة واحدة هي إجابته لها، بعد مقارنة هذه الصفات وصلت إلى تصور (أثق فيه بنسبة 85%!) أن ما حدث لمصر هو إلى حد كبير نتيجة نظام التعليم، فالأطفال منذ الصغر يذاكرون من كتب وملازم، معلوماتها مضغوطة في بعض النقاط، وإذا حفظ الطالب عن ظهر قلب كل هذه النقاط وكتبها كلها في الامتحان يكون قد توصل إلى الإجابة النموذجية، فيأخذ 100%، وإذا قام بنشاطات إضافية فمن الممكن أن يتخرج بأكثر من 105%!، قارن هذا بالمدارس الفرنسية (الحقيقية، وليست اللغات الفرنسية) حيث يهنئك المدرس إذا حصلت على 65% في مادة الإنشاء لأن متوسط الفصل ينجح بـ55%!.. كذلك، أذكر أننى في أول سنتين في دراستى للدكتوراه في ولاية مينيسوتا وكنت أدرس العلوم الطبية مع طلبة الطب استغربت أن يعطونا امتحانًا لنحله في 30 دقيقة، وهو مكون من عدد كثير من الأسئلة لن يستطيع أحد أن يقرأها، ولا أقول أن يفهمها ويحلها في 30 دقيقة، ولما استفسرت عرفت أن هذا الإعجاز مقصود لكى لا ينجح طالب الطب بأكثر من 80% حتى لا يصبح طبيبًا يغتر بنفسه ويعتقد أن عنده كل المعلومات!!، هكذا يفكرون، وهكذا نفكر، الدكتور الذي قرأ مئات الصفحات، ودرس مئات الحالات يُطلب منه التواضع، ونحن نخلق أجيالاً لم تعرف أكثر من معلومات الملازم، فهى تعرف قليلًا، لا تقرأ لغات أجنبية وتحتقر كل ما هو غريب دون أن تحاول أن تفهمه، ومع ذلك، فثقتها تامة أن عندها كل المعلومات لأنها كانت تأتى دائمًا بالإجابة النموذجية، وهى لم تتعود أن ترى رأيًا آخر، فهى لا تتقبل الرأى الآخر، وإذا لم تثقف هذه الفئة من نفسها في الحياة، ولم تتعلم كيف تنظر إلى الأمور من وجهات نظر مختلفة، بقيت ضحية لنظام تعليمى أصفه بالمجرم، شوه فئة واعدة ومهمة من مجتمعنا كان من المفترض أن يرعاها وينميها. وهنا قالت شهرزاد: «ربما هناك أسباب أخرى لظاهرة الثقة التامة بالمعلومات سنقدمها مستقبلاً»، وسكتت عن الكلام المباح.