وصلتنى ردود فعل كثيرة على مقالات الأسبوع الماضى التى حاولت فيها فتح باب مناقشة بديهيات هى مجرد قواعد فقهية بشرية رفعها الشيوخ إلى مرتبة المقدسات الإلهية حتى صارت قرآناً فوق القرآن!! أختار اليوم رسالة أ. د خالد الرخاوى، وهو أستاذ كبير ومثقف من خبراء علاج الشبكية فى مصر والعالم العربى، كتب هذه اللقطة اللماحة استكمالاً للموضوع وقال: أشكرك على مقالتى الثلاثاء والأربعاء الماضيين اللذين فندت فيهما قاعدتين فقهيتين مشهورتين وهما: «١» لا اجتهاد مع وجود النص، و«٢» العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وربما تسمح لى أن أضيف بعض المقولات الفقهية الأخرى التى أصبحت مع الوقت مقدسة عند الكثيرين على الرغم من أنها ليست بآيات قرآنية كريمة وليست بأحاديث نبوية ولا هى حتى بأقوال مأثورة عن الصحابة أو التابعين أو تابعى التابعين، مقولات أو «قواعد فقهية» لم يُنزل الله بها من سلطان وإنما ابتدعها الفقهاء القدامى ابتداعاً وتداولوها على مر العصور حتى أصبحت شبه مقدسة لديهم بل وأصبحت فى عرفهم جزءاً لا يتجزأ من الدين، وهى ليست كذلك على الإطلاق. خذ مثلاً مقولة «إنكار المعلوم من الدين بالضرورة»، وراجع كيف تسببت هذه المقولة الفقهية -ولا تزال تتسبب- فى قتل مسلمين موحدين مؤمنين بالله كل ذنبهم هو أنهم تجرأوا على محاولة الفهم المختلف للدين فتم اتهامهم فقهياً وليس دينياً بإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة لتمتد إليهم يد الاغتيال أو قرار الإعدام أو حكم التفريق. وخذ أيضاً مقولة «درء المفاسد مقدم على جلب المنافع»، وراجع كيف استُخدمت هذه القاعدة الفقهية فى السابق لمنع تعلم اللغات الأجنبية فى غير واحدة من الدول الإسلامية، وكيف تصدر هذه الأيام فتاوى تحريم الإنترنت أو استخداماته فى عصر لا غنى فيه عن جلب منافعها فى الاتصال بالعالم المعاصر الذى يريدون أن ينزعونا منه بدعوى درء المفاسد فينتهى بهم الأمر إلى أن يحرموا علينا الحياة كلها. كذلك مقولة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». انظر كيف كانت هذه المقولة الفقهية سبباً فى شيوع وهم أن الدين لن يكتمل إلا بعودة «الخلافة الإسلامية» وهو الوهم المسئول الأول عن الصراع والتناحر والحروب والقتل بين المسلمين وبعضهم لمحاولة تطبيق مفهوم عفا عليه الزمن. ولا تقتصر جناية الفقهاء على العقل والدين فى القواعد الفقهية المخترعة، وإنما -وهو الأخطر- فى المفاهيم المغلوطة التى أشاعوها، ولنأخذ مثلاً خلطهم المقصود بين الشريعة والفقه فتجدهم يقولون لما حرموه أو حللوه من دون الله: «حرام شرعاً» أو «حلال شرعاً» بينما الصحيح أن يقال «حلال فقهاً» أو «حرام فقهاً»، هذا إذا جاز للفقه أن يحرم أو يحلل ما لم يرد به تحريم أو تحليل من الشارع سبحانه فى خلط وعدم تمييز بين الشريعة ومصدرها الله وبين الفقه ومصدره البشر. ولتأكيد سلطتهم الدينية يستخدمون تعبيرات مثل «أهل السنة والجماعة» أو «رأى الجمهور» لإرهاب كل من يتجرأ ويحاول أن يفكر فى أمور الدين بأسلوب مختلف. أما المغالطة الكبرى التى أشاعها فقهاء الإسلام السياسى فتتمثل فى سوء استخدامهم المقصود للآية الكريمة: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» هم يعلمون ولكنهم يتجاهلون التغير فى معنى الألفاظ على مر العصور، هم يعلمون ولكنهم يتجاهلون أن معنى كلمة الحكم قديماً ليس هو ما نقصده بنفس الكلمة فى لغتنا المعاصرة وأن ما نعنيه بالحكم حالياً كان يتم التعبير عنه بكلمة «الأمر» (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) بينما كلمة الحكم فى الآية معناها أقرب إلى فض المنازعات. هم يعلمون ذلك ولكنهم يشيعون عكسه طلباً لسلطة سياسية باسم الدين. ما سبق هو مجرد أمثلة لما جناه الفقهاء على أفكارنا باسم الدين، فهل لنا أن نأمل أن يأتى يوم ننفض فيه عن عقولنا هذه السيطرة الفكرية الفقهية ونتحلى بشجاعة القدرة على مراجعة مفاهيم راسخة لم نجن من ورائها إلا الجمود الفكرى والتخلف والانعزال عن العالم المعاصر؟