«الأعمى السيئ ليس ذاك الذى لا يرى، وإنما الذى لا يريد أن يرى»، «ما أصعب أن يكون المرء مبصرا فى مجتمع أعمى»!!.. تذكرت هاتين العبارتين من بين سطور واحدة من أجمل الروايات التى قرأتها فى حياتى، رواية «العمى» للكاتب البرتغالى العبقرى جوزيه ساراماجو، الذى رحل أمس الأول، عن 87 عاماً، أصدر رواية وهو شاب فى العشرينيات ثم انقطع عن الكتابة عشرين عاماً، وظل يعمل على موهبته بهدوء مثل أسطوات الأرابيسك أو صانعى الحلى حتى سن الستين ليفاجئنا بروايات ساحرة تتجاوز حبكتها أى خيال، كل رواية تستفز عقلك بفكرتها التى لا يمكن أن تخطر على ذهن كاتب إلا جوزيه ساراماجو.

ساراماجو كاتب وُلد ليثير الجدل، خُلق ليكون صادماً، عاش رافضاً فكرة التنازل والمواءمة لكى يرضى المجتمع عنه، عندما اختار منفاه الاختيارى وهجر البرتغال بعد حرب الكنيسة لروايته «الإنجيل حسب المسيح»، عندما برأ قابيل من جريمة قتل هابيل فى رواية «قابيل»، عندما ذهب لياسر عرفات، متحدياً اجتياح شارون، واصفاً حكومته بالجلادين، عندما ساوى محمود درويش ببابلو نيرودا، عندما وضع العصابة على عينى تمثال المسيح فى رواية «العمى»، عندما استحضر فى روايته مجتمعاً يكتسحه العمى الأبيض الشاهق، عمى الجهل، نحن عميان يقودنا مكفوفون على مستوى كل السلطات، سياسية كانت أم دينية!

بقدر ما أمتعتنى رواياته بقدر ما أجهدتنى، لأنه مثلما اكتشف أفكاراً جديدة، فإنه كتب بطريقة بكر طازجة صادمة للمألوف.. فالفاصلة والنقطة وعلامات الاقتباس واسم قائل الجملة «ملغية» من قاموسه الروائى، ولهذا يحتاج إلى تركيز عال فى القراءة، وأتمنى للتعرف عليه أكثر قراءة خطابه أثناء تسلم جائزة نوبل فى 1998، فهو قطعة أدبية بديعة، أتمنى أن تترجم لكى يطلع عليها القراء المصريون، ومن يرد قراءتها بالإنجليزية، فليدخل على موقع:

http://nobelprize.org/nobel_prizes/literature/laureates/1998/lecture-e.html

حوارات ساراماجو لها سحر رواياته نفسه، وسأقتبس لضيق المساحة بعضاً من ردوده التى تحمل حكمة وشغباً وصدقاً من حواره مع الكاتبة جمانة حداد، يقول ساراماجو: «دورى ككاتب هو أن أقلق هؤلاء المطمئنين البؤساء. أنا لا أكتب لكى أهدئ من روع القارئ، ولا لكى أحارب الموت كما يزعم البعض - وهى أسخف فكرة سمعتها فى حياتى - بل أكتب لكى أوقظ، وأيضا لكى أفهم، الناس تنتظر الأسئلة، حتى وإن كانت «تعرف» فى لا وعيها ما الخطب»،

ويضيف: «أنا لا أخترع وإنما أزيل الأحجار من على المشهد، وليس ذنبى أن خرجت الوحوش من تحت الأحجار»، «نحن فى مرحلة بات فيها البيع والشراء الغاية القصوى والوحيدة من الحياة، بتنا نعيش لنتاجر، لم نعد نتاجر لنعيش»، «أثمن ما نملكه جميعا بين أيدينا هو الشك، لا اليقين. الشكوك هى التى تدفعنا إلى التفكير، أما اليقين فيتسبب فى الشلل والجمود، لا بل يحوّلنا مومياءات. الشك يخصب ويحيى»، «لا الشباب يعرف ما يستطيع، ولا الشيخوخة تستطيع ما تعرف».

عزيزى القارئ.. أنت بعد قراءة ساراماجو مختلف عما قبل.