رحلت فى 1 أبريل 1969، ودّعتنى سعاد فى السادسة والعشرين من عمرها، كنت أظنها كذبة أبريل. منذ أكثر من نصف قرن رحلت أمى فرحل معها الحضن والدفء والأمان والونس، تخيلت أنها كذبة شهر أبريل، لكنها للأسف كانت حقيقة كل الشهور وجميع السنين، حقيقة الحياة التى تضن علينا أحياناً بالبهجة وتمنحنا، بكرم بالغ وإغداق سخى، الشجن والدمع والألم والفراق. رحلت بعد أيام من تكليف مدرسة العجوزة الابتدائية لى بإلقاء خطاب احتفال عيد الأم، كنت فى الصف الثالث الابتدائى، ألقيت الخطاب فى حوش المدرسة ثم أجهشت بالبكاء فى بروفة جنرال لإحساس غامض رصده رادار الروح، إحساس خلقه القرب الحميم بين طفل وحيد وأم جميلة خرجت من جراحة صمام القلب بصعوبة فى الكلام، كنت الوحيد وأنا فى هذه السن الصغيرة الذى أستطيع ترجمة مفردات لغتها المفككة المتلعثمة، كانت تصرخ لدرجة الاختناق بالبكاء عندما لا يفهمها المحيطون بها، لا يجفف الدمع ويكفكف ملح المآقى إلا مترجمها الفورى، طفلها خالد الذى يأتى بعصاه السحرية ليمد لها جسر الفهم ويفتح قاموس المعنى.قرأت فى ظلام غرفة مكتب والدى تقرير حالة أمى، سحبته من درج المكتب، لم أفهم هذه الكلمات الغريبة، ضيق فى الصمام الميترالى نتيجة روماتيزم فى القلب، عرفت فيما بعد فى كلية الطب أن روماتيزم القلب صار يسكن المتحف كفلكلور، لكنه للأسف فى ذلك الوقت سكن قلب سعاد الطيب كوحش ينشب مخالبه فى جداره الحنون، كان جرّاح معهد القلب الشهير عائداً من أمريكا بأسلوب الجراحة الجديد وقتها، وكان معهد القلب يستقبل ويعرض أولى الحالات عليه، كانت الجراحة تستغرق أكثر من خمس ساعات، وكانت دوماً تنتهى بمضاعفات الجلطات، اتسع الصمام وضاقت الدنيا، صرت أنا الدليل بلا دليل أو شعاع ضوء، وصارت هى الوصال بلا لغة أو أبجدية حروف، رحلت ولم تترك لى إلا رائحة عطرها، وفتات صوتها وهى تغنى لشادية، وبعض كلمات خطتها ببطء وصعوبة على قصة لإحسان عبدالقدوس، وبعض ملامح منها زحفت عليها التجاعيد، وشجناً مزمناً، ودمعة ساكنة فى زاوية العين، وعنوان مقبرة تائهة، وأملاً مترقباً للقاء فى دفتر الغيب.