فلنتخيل قاعة تدار فيها ندوة عن تلوث الهواء فى مصر، الزمان: القرن الحادى والعشرون، السيناريو والحوار: مناقشات عنيفة وحادة استغرقت عشر ساعات، كلها من عينة «نعم نعانى تلوثاً فى الهواء، فين أيام ما كنت باروح المدرسة سيراً على الأقدام أشم الهواء النقى، أيام المدارس ما كانت مدارس، قبل الدروس الخصوصية والبلاوى اللى بنسمع عنها دلوقتى!!». لاحظ قارئى العزيز أن الندوة عن تلوث الهواء! هذه المغالطة المنطقية فى الحوار يطلقون عليها red herring أو الرنجة الحمراء، يعود هذا الاسم للحيلة التى كان يستخدمها المجرمون للهروب من كلاب الصيد بتضليلها عن طريق الرنجة الحمراء وتحويل انتباهها عن الرائحة الأصلية، ونحن دائماً نستخدم مغالطة الرنجة الحمراء فى حواراتنا بإدخال تفصيلات جانبية لا دخل لها بالموضوع الأصلى، أو إطلاق قنبلة دخان عاطفية مثيرة للانفعالات تصنع ضباباً وغشاوة تصرف النظر عن صلب الموضوع، ينجح المحاور فى الإقناع أو بالأصح الخداع من خلال هذا الموضوع الجانبى الذى لم يؤثر فى المستمع بسبب موضوعيته بل بسبب بريقه الانفعالى.يقف نائب برلمانى صارخاً منتفخ الأوداج: كيف تقبلون المشروع الضريبى الذى قدمه فلان؟! إنه غشاش ومنافق وزير نساء!! إنها مغالطة الحجة الشخصية وقتل الرسول بدلاً من تفنيد الرسالة كما يفعلون مع مؤسس موقع ويكيليكس الآن! المغالطة الشخصية تكون أحياناً بالسب أو بالتلويح بالظروف الشخصية والغرض والمصلحة أو القول بأنى أفعل الخطأ لأنك أنت أيضاً تفعله، مثلما نقول تبريراً للفساد بأنه موجود فى كل العالم، أو أن تسمم البئر من البداية وتبدأ جملتك بهجوم مباغت وضربة وقائية حتى يفقد المحاور أى تركيز فى إضفاء المنطق وشرح المبرر.ظل القول بأن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل قروناً وقروناً راسخاً فى الأذهان لا لشىء إلا لأن قائله هو أرسطو الذى لم يطلب من زوجته أن تفتح فمها ليعد أسنانها ولو لمرة واحدة! إنها مغالطة الاحتكام إلى سلطة سواء شخص أو نص أو نظام، فيكفى أن تقول ذكر فلان أو قال علان ليصبح الكلام يقيناً وحقيقة، نحن نتمنى ونفكر بطريقة التمنى wishful thinking، نحن نصدق ما قالته هذه السلطة لأننا نتمناه وليس لأنه حقيقة، نحن مدمنون لطريقة الألفاظ العامة مثل هناك بحث ألمانى قال، أو هناك برنامج تليفزيونى يؤكد.. إلخ.لا بد أن نعرف ونوقن أن أى معرفة من أى سلطة لا تتجاوز كونها ظناً! «رجل الأعمال فلان حرّض على قتل الفنانة فلانة لكنه كان رجل خير يقوم بإمامة العمال للصلاة وحرام نعمل فيه كده وهى فى الأول والآخر حتة رقاصة»! «سهلوا الامتحانات شوية ده الولاد مابيناموش».. إلخ، مغالطة منطقية عنوانها مناشدة الشفقة أو استدرار العطف، تختفى الحجة والبيّنة ويحل محلهما العطف والشفقة.«يعنى معقول انت حتفهم أفضل من الناس دى كلها»! دائماً يقذف الناس فى وجهك بهذه الحجة التى يتخيلونها مفحمة ثم يُصدمون عندما تقول لهم: نعم أنا ممكن أكون على حق وكل الملايين دى على باطل! إنها مغالطة الاحتكام إلى الناس أو ما نطلق عليه الإجماع. الإجماع خرافة، والحقيقة ليست ديمقراطية بالضرورة، وصحة الفكرة لا تقاس بعدد معتنقيها. يقول برتراند راسل: «إن انتشار الرأى ليس دليلاً على أن هذا الرأى ليس باطلاً، والحق أنه بالنظر إلى سخف أغلبية بنى الإنسان، فإنه لأقرب إلى الاحتمال أن يكون الاعتقاد واسع الانتشار اعتقاداً سخيفاً لا معقولاً»! الناس عادة تسلم عقولها وضمائرها لطغيان الثقافة الجاهزة، كما يقول د. عادل مصطفى، مؤلف كتاب «المغالطات المنطقية»، الإنسان تعوّد على دفء القطيع والانضمام إلى زفة الحشد، هذا المعنى الذى عبّر عنه جون كينيث جلبرت قائلاً: «عادة من الآمَن لك أن تكون مخطئاً مع الأغلبية من أن تكون صائباً وحدك».