لا يصح إلا الصحيح، والتاريخ ينصف ولكن إنصافه بطىء ومتأخر، رددت هذه الكلمات وأنا أشاهد احتفاء برنامج «مصر النهارده» بذكرى «الشيخ إمام» الذى كان مطارداً من وسائل الإعلام، وكان مجرد ذكر اسمه كفيلاً برفت وفصل المذيع بل ومعه طاقم البرنامج كله من المخرج حتى الفراش، يأتى التليفزيون الحكومى بعد كل هذه السنوات ومن خلال مذيع مثقف ذى وعى ورؤية مثل خيرى رمضان ليحتفى بهذا الفنان الذى أثرى وجدان المصريين.

شاهدته وأنا فى إعدادى طب التى كنا ندرسها فى مدرجات كلية العلوم، كان المدرج بجانب كافيتريا كلية السياسة والاقتصاد، كان يقف على إحدى الموائد شاب مبهر ومفوه ذو كاريزما لا تقاوم، تخرج فى كلية الاقتصاد ولكنه ظل زعيمها المحبوب، أحمد عبدالله، كان يخطب فى طلبة الجامعة، استعداداً لمظاهرة تضم جميع ألوان الطيف السياسى، فى نهاية حديثه أشار إلى حفل الشيخ إمام، مساء، فى كلية الهندسة التى كانت معقل اليسار آنذاك، افتتنت بهذا الشيخ النحيف وزميله الشاعر العبقرى أحمد فؤاد نجم وزميلهما محمد على وصوت عزة بلبع الفيروزى الرائع، سكنتنى كهرباء «إمام» السحرية من وقتها حتى هذه اللحظة.

ولادة «إمام ونجم» الحقيقية هى هزيمة 67، قررا أن يغنيا بحنجرة الناس مهما كانت مشروخة مختنقة بملح الدمع، ويعزفا بريشة الفطرة، بمجرد عود فقير ومعه رق متهالك، قرر «الشيخ إمام» أن يغنى صارخاً بلا مهادنة، فلا مهادنة فى ذبح وطن ولا مساومة فى بيع شعب، عمل «إمام» على تطهير الجرح بمزيد من الملح حتى ولو كان الثمن مزيداً من الصراخ،

ومارس السخرية حتى ولو قيل عنها جليطة وعدم مراعاة لظروف الهزيمة، فقد كان الجرح طرياً ونازفاً وأعمق من أن يعالج بالطمأنة والهدهدة والزغزغة، غنى للضباط والعساكر الراجعين حفاة مطأطئى الرؤوس: الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا... يا ما أحلا عودة ضباطنا من خط النار، إيه يعنى لما نسيب سينا، واللا جرينا هى الهزيمة تنسينا إننا أحرار!!.

وكما هاجم الهزيمة هاجم الانفتاح السداح مداح، وظل «إمام» وهو الضرير الضمير الذى أبصر بحدة بصر زرقاء اليمامة، والذى جمع حوله الحرافيش والفلاسفة، ويكفى أن اثنين من أساتذة الفلسفة وهما فؤاد زكريا وحسن حنفى كتبا عن «الشيخ إمام»، قال عنه د.فؤاد زكريا: «الشيخ إمام لم يتوجه إلى الناس بوصفه فناناً فحسب بل هو يجمع بين صفة الفنان وصفة الخطيب السياسى والناقد الاجتماعى الساخر»،

ويقول عنه د. حسن حنفى: «هو ينعى جيفارا كما تنعى نساؤنا الأموات، وينط مع (الحتة الملعب) فى لحنه وأدائه، ويباسط مع ابن البلد فى (يا عم روق)، واللحن الأساسى لا يتغير عنده بتغير أوجه الأداء بل فى كل مرة أداء جديد وكأنما أسمعه لأول مرة، فهو يعيش اللحن من الداخل».

من سخريات القدر ألا يجد بسطاء الناس وهم يودعون عبدالناصر غير «لحن جيفارا» للشيخ إمام، لم يجدوا سواه كى ينسجوا على منواله لحن «الوداع يا جمال» فى أضخم جنازة شعبية، وكانت الأغنية تشق جدران الصمت إلا جداراً واحداً هو جدار سجن الشيخ إمام الذى كان حينذاك فى المعتقل بتهمة العداء لعبد الناصر!.