ما زال المصريون فى حيرة، كيف استطاع سواق توك توك ومسجل خطر أن يجمع ٢ مليار جنيه فى أقل من شهر بمجرد ادعائه أنه قد رأى السيدة زينب فى المنام وأنها قالت له انت بتتاجر مع ربنا؟! باع الناس مواشيهم والبعض باع بيته ومصوغات زوجته وأرضه! ألف مستريح قبله ولا عبرة أو اعتبار! بمجرد سبحة طويلة ملفوفة على الرقبة خدعهم، الرجل لا يملك حتى الملامح الطيبة التى من الممكن أن تخدع، ولا لغة الخطابة الرنانة ذات السجع والجناس والبلاغة والمحسنات البديعية!! أى طفل فى ابتدائى يعرف من أول نظرة أنه أمام «نصاب قرارى»، وبالرغم من ذلك خدعهم! عدوى العته الهستيرى انتشرت انتشار النار فى الهشيم، لم تفلح معها محاولات سرد حكايات من انتحر من قبل من مودعى شركات توظيف الأموال، ومن أصابه الشلل، ومن بات يتسول فى إشارات المرور، ومن دمرت حياته وضاعت أسرته وتشرد أولاده.. إلخ، بالطبع هناك ما أطلقت عليه الإيدز الذى أصاب عقلنا الجمعى، وتشخيصه وعلاجه يحتاج دراسات مفصلة وليس مقالاً مقتضباً، لكنى سأنعش ذاكرة المصريين وأعيد حق كشف تلك الظاهرة وتحليلها لأول من فضحها وتصدى لها، المفكر شهيد الرأى فرج فودة، كتب كتاب «الملعوب» فى منتصف الثمانينات، محذراً من تلك الكارثة وشارحاً لآلياتها وكيف يمكن إعطاء تلك الأرباح الخرافية بطريقة النصب وتلبيس طاقية هذا لذاك، كان قد أهدانى الكتاب بخط يده الأنيق وهو يكاد يبكى، فقد استنفد جهداً كبيراً وعرضه على عدة دور نشر وتم رفضه، واضطر لطبعه على حسابه، وكان سعره حينذاك جنيهين، شرح فيه بأسلوبه السلس ولغته القوية وخلفية دراسته الاقتصادية ما سماه أخطر وأكبر عملية نصب فى تاريخ الاقتصاد المصرى، أتمنى أن يعاد طبع هذا الكتاب لكى يعرف الشعب المصرى جذور تلك المسألة وأبعادها. وسأنقل جزءاً من مقدمة «الملعوب»، كتب فرج فودة:أنت تكسب ليس لأنك الأذكى، ولكن لأن الآخرين أغبياء، وليس لأنك الأكثر مقدرة، ولكن لأن الآخرين عجزة، وليس لأن بابك مفتوح، ولكن لأنهم سدوا جميع الأبواب والنوافذ، وليس لأنك الأكفأ، ولكن لأنك الأثبت أعصاباً والأقل انفعالاً والأكثر إيماناً بأنك من التراب وإلى التراب تعود، والمعنى الدينى هنا ليس مقصوداً، وإنما المقصود هو المعنى المباشر، فالتراب الذى أتى منه هؤلاء، هو تراب الحوارى الذى أنبت أبناء الطبقة دون المتوسطة، فإذا عادوا إليه فلا بأس، وإذا عادوا إلى غيره فى أى مكان أمين للتحفظ فلا بأس أيضاً، بيد أن العودة هذه المرة مشكوك فيها، ما دام الجميع يتحصنون بعشرات الآلاف من صغار المودعين، وبالآلاف من متوسطيهم، وبالعشرات من كبارهم، وما دام للمال لغة تهتز أمامها الرؤوس وتنحنى لرنينها الرقاب، ويطمح إليها بعض المسئولين فى عالم اليوم، تحسباً لعالم الغد، حين تنطفئ الأضواء، فيأتى السعد ساعياً، ويصبح الزمن رياناً، ولا ضير فى ذلك طالما أنه يتم من خلال العمل الشريف! ولا تعليق.