يظل الكاتب والشاعر والمسرحى والروائى الكبير عبدالرحمن الشرقاوى رمزاً تنويرياً فى حياتنا حتى بعد رحيله، فها هو كتاب «قراءات فى الفكر الإسلامى» الصادر عن دار الشروق، يجمعه ابنه د. أحمد منذ ثلاث سنوات تقريباً، الكتاب فى الأصل حلقات إذاعية قديمة، ولكنه من فرط حداثته واشتباكه مع قضايا الواقع تحس أنه قد كُتب بالأمس!«الشرقاوى» هو أفضل من قدم قراءة ثورية تقدمية للتاريخ الإسلامى فى زمن الستينات والسبعينات بعد جيل طه حسين وأحمد أمين والعقاد، والمعانى التى قدمها هذا الكتاب صغير الحجم عظيم القيمة، هى امتداد لتلك الأفكار الثورية التى طالما جلبت على الكاتب المشاكل وأدخلته فى كثير من المعارك التى أحياناً ما كلفته الحرمان من المناصب أو تكفيره واغتياله معنوياً.مقالات الكتاب يربطها كلها خيط الدين الثورة وليس الدين الطقوس، تحدث عن دين العدل والحرية الذى شوهه بعض الرواة وأصحاب السلطة والثروة والمنتفعين، سلط الشرقاوى الضوء على المعتزلة ودور العقل فى منظومتهم الفكرية، ومكانة العلة والظرف والتأويل والشك، وكيف تخلصوا من وثنية عبادة الأشخاص مهما كانت مكانتهم، وكيف خسر المعتزلة المعركة عندما خانوا ثورتهم العقلية مقابل مكاسب سياسية زائلة.يؤكد «الشرقاوى» فى عدة مناطق فى الكتاب أن أركان الإسلام ليست أسراراً أو شكليات ولكنها وظائف عامة، وأن حرية الرأى سُنة، وكيف أن الجهاد فى الأصل هو دفاع عن حق الفقير، وأن الملكية الخاصة محددة بمنافع الغير، وأن الطبقية الوحيدة التى يسمح بها الإسلام هى طبقية العلم وهى طبقية محمودة، ولكن آخر فصول الكتاب أو مقالاته هو أخطر الفصول، عنوانه «من الذى يفسر لنا مبادئ الإسلام؟» فهو بمثابة صرخة ما زال صداها يتردد فى جنبات بلاد المسلمين حتى هذه اللحظة، وتضيع سُدى، لم يلتفت أو يسمع أحد تلك الصرخة من عبدالرحمن الشرقاوى، لذلك سأقتبس منها بعض الفقرات التى لن تغنى أبداً عن قراءة الكتاب خاصة تلك الصفحات الأخيرة، يقول «الشرقاوى»:«لقد نصح أبوبكر الصديق خليفته عمر أن يحذر ذاك النفر من الصحابة الذين فتنتهم الدنيا فانكبوا عليها، كان هذا فى عهد أبى بكر، فكم هم الآن هؤلاء النفر الذين يسمون أنفسهم علماء الدين، والذين يسكتون عن المنكر وقد ينهون عن المعروف لكى يستمتعوا بالطيبات؟! لقد تمنيت على الله أن نحذر هؤلاء المنتشرين فى كثير من بلادنا العربية، وإنهم ليطربون الآن للدعوة إلى تطبيق الشريعة، لا إخلاصاً للشريعة ولكن ظناً منهم أن الأمور ستؤول إليهم، فتأتى دولتهم، فإذا هم الوارثون!».ويستكمل صرخته محذراً: «ما من شىء أخطر على الشريعة الإسلامية من أن يحسب بعض المخلصين من حكام المسلمين أن هذا النفر ممن يسمون أنفسهم رجال الدين، هم الذين أوتوا العلم حقاً وهم ورثة الأنبياء حقاً! وهم من أجل ذلك يستحقون أن تكون لهم كلمة مسموعة، إنهم يريدون كهنوتاً خاصاً، وما زال فى أعماقهم أثر هائل من الوثنية القديمة، وكأنهم قد أسلموا ولما يدخل الإيمان فى قلوبهم! إنهم متعصبون يضرون أكثر مما ينفعون، وما يخدمون إلا مصالحهم الخافية وأهواءهم وأطماعهم، إنهم حرب على التقدم، والتقدم هو جهر مبادئ الإسلام، إنهم أعداء الحرية والفكر، وهم يريدون أن يفرضوا ظلمات الجمود على كل مظاهر الحياة».وينادى فى نهاية الكتاب حكام المسلمين بأن يبحثوا عن هذا النفر من الفقهاء المخلصين الذين يدركون ما فى الإسلام من نقاء وطاقات، ممن أنار الله بصائرهم وصفى ضمائرهم ولكنهم فى الظل، لأنهم يتعففون ولا يتداعون فوق الطعام.رحم الله عبدالرحمن الشرقاوى، ورحمنا نحن أيضاً من تجار الدين.