أنا شخصياً لست من عشاق أغانى المهرجانات، ولكنى ضد منعها، ومع ترك نظرية الفرز الاجتماعى والفنى لتؤدى وظيفتها وعملها. المسألة أكبر من مجرد أغنية مهرجان، المسألة مسألة رفض وصاية من أى نوع، اليوم وصاية على ذوقى الموسيقى، غداً ستصبح وصاية على اختيارى وانحيازى الفكرى، هناك فلتر اجتماعى ذاتى، وهناك غربال شعبى متعدد مقاسات الثقوب، هذا الفلتر وذاك الغربال هما اللذان يحددان ماذا سيظل فى الوجدان وماذا سيسقط. لم يهاجم مطرب شعبى مثلما هوجم عدوية وهوجمت كلماته وإيقاعات ألحانه، لكن ذكاء عبدالحليم جعله يذهب إليه ويصفق له بل ويغنى معه، لأنه يعرف ويدرك جيداً أن تأميم الذوق الفنى مستحيل، عبدالوهاب نفسه مدح عدوية، بليغ حمدى لحّن له أغنية اسمها يا واد يا بنج! عبدالحليم ضربوه بالطماطم فى حفلته الأولى لأنه رفض الغناء بالاستايل القديم. وجود التنوع له عدة مزايا ومكاسب، سيستفيد الفن الأصيل أو ما تعتبره أنت أصيلاً بأن يتساءل ما هو سر انجذاب هؤلاء الشباب إلى ذلك النوع من الفن؟ هل هو الإيقاع الراقص؟ إذا كان هذا هو المغناطيس فلنطعّم ألحاننا بالإيقاع الراقص وهكذا، وهذا هو ما حدث من عبدالوهاب وبليغ وغيرهم ممن تمردوا على نظام التخت ويا ليل يا عين ورتابتها، وسيستفيد أيضاً فن المهرجانات بأن يطور ويعدل من نفسه، وسيذهب حتماً الزبد جفاء، وستقع النفايات من تلقاء نفسها فى سلة قمامة الفرز التاريخى. الطفل لا يتعلم المشى السليم إلا من خلال التعثر، ولو أفزعناه وضربناه مع كل عثرة سيصاب بالشلل ولن يبادر بأى حركة جديدة من الممكن أن تجلب له العقاب، المجتمع الذى يعلق خطاياه على شماعة أغنية أو فى رقبة مشهد سينمائى هو مجتمع مرعوب من المواجهة الحقيقية لمشكلاته وعرضها على طاولة التشريح النقدية، نحن نعانى من التخشب العضلى وليست لدينا رقصة قومية مثل بقية الشعوب، ليست لدينا دبكة أو سالسا أو زوربا أو تانجو أو رومبا أو سامبا... إلخ، وقد وجد الناس متنفساً فى أغانى المهرجانات وغيرها كى تتحرك الأجساد وينفضوا عنها نشا التخشب والتشنج، وحتى نخترع رقصتنا القومية المصرية سنظل نبحث عن أى إيقاع راقص يجمعنا خارجها، لا ننسى أننا كنا قد لجأنا إلى مقدمات أم كلثوم الراقصة لكى نجتمع حولها فى حفلات السمر الراقصة، كان على رأسها مقدمة ألف ليلة لبليغ، وأتذكر جيداً وأنا طفل جنون وولع بنات الجامعة حينذاك بالرقص على أنغامها. الوصاية مرض خطير، وترك التنوع وآلية الفرز هو أفضل لقاح، أستمع إلى باخ وموتسارت وبيتهوفن، ولا أخجل من أن تُحسن مودى وتبهجنى «بنت الجيران» و«سلامتها ام حسن»، ولا أحس بأنها خدشت ثقافتى أو جرحت مكانتى أو أنزلتنى من درجة المثقف إلى درجة الأبله! وفى نفس الوقت لا أنكر على مثقف آخر امتعاضه وكراهيته لتلك النوعية من الغناء، هو حر، لكن أن ينزل بسيفه لبتر ألسنة وأحبال الصوت لحناجر هؤلاء المطربين، هنا هو ليس حراً، فالوصاية دائرة جهنمية، ما إن تبدأ الشرارة حتى تندلع الحرائق لتأكل الأخضر واليابس، وتنتهى بحرق من فرض الوصاية نفسه بتهمة إفساد الذوق العام.