شاهدت برنامجاً يناقش زراعة كلية الخنزير فى المريضة المتوفاة دماغياً فى أمريكا، وهو الموضوع الذى شغل المجتمع الطبى هذا الأسبوع واحتل نشرات الأخبار ومانشيتات الصحف. انتظرت أن أرى كبار الأطباء المتخصصين ضيوفاً فى البرنامج، فإذا بى أفاجأ بأن الضيفين من شيوخ الأزهر! شيوخ فى موضوع طبى معقد بهذا الشكل، عن زرع كلية خارج الجسم وتعطيل جين وسكر «ألفا جال» الذى يتسبب فى طرد الكلية ومراقبة نسبة الكرياتينين لمدة ٥٤ ساعة... إلى آخر تلك التفاصيل الطبية الدقيقة التى تحتاج إلى شرح، ويحتاج معها جمهور المشاهدين إلى توعية وتثقيف علمى متميز، لكنى لم أجد إلا شيخين، واحداً منهما يتحدث عن تحريم التداوى بأى شىء من طرف الخنزير! حتى لا أظلم البرنامج فهذا مزاج اجتماعى عام وليس مزاج برنامج، المواطن صار يدق على باب الفتوى فى كل شىء من تفاصيل دخول الحمام حتى تفاصيل العلاقة الحميمية! وفى الطب خاصة ستجد العجب العجاب من طرح كل قضايانا الطبية على مائدة الفتوى، ولا أعرف ما علاقة هذا بذاك؟ إنك عندما تلجأ إلى الفتوى الدينية فى مسألة طبية، فأنت كمن يريد استخدام مقياس الكيلوجرام فى قياس طول فستان! هذا معيار وذاك معيار آخر ولا يعنى هذا الفصل أن العلم أفضل من الدين، المسألة كلها أن معياره مختلف، العلم معياره الشك والدين معياره اليقين، وقد عانينا من هذا السعى خلف الفتاوى الطبية كثيراً، ففى قضية ختان البنات فوجئنا بفتوى من شيخ أزهر سابق أربكت المشهد، قال فيها بوجوب الختان ولو كنا وقتها استجبنا لفتواه لما كنا وصلنا إلى القانون العظيم الذى جرم تلك الجريمة البربرية. هناك قضية تحويل الجنس من ذكر إلى أنثى وبالعكس والتى هى مشكلة نفسية مؤلمة تخضع لبروتوكول طبى منضبط، ومرضى الترانسكس ضحايا لتعنت دينى شديد فى التعامل معهم وكأنهم لعنة، ويضطر الكثير منهم للانتحار لحسم هذا الصراع وللفرار من غلق كل الأبواب أمامهم. هناك قضية التبرع بالأعضاء التى تعطل صدور قانونها أكثر من ربع قرن، ثم تعطل تفعيله أكثر من عشر سنوات، نتيجة فتوى أن الجسد ملك لله وحرام أن تتبرع بعضو منه بعد وفاتك، ونتذكر جميعاً أنه فى بداية أطفال الأنابيب حدثت اعتراضات دينية حتى فرض الواقع نفسه، أوروبا مرت قبلنا بهذه الصراعات لكنها قد حسمتها منذ قرون بالفصل بين ما هو علمى وما هو دينى، وعدم تدخل رجال الدين فى شئون البحث العلمى، قاست أوروبا من رجال الكنيسة فى الأمور الطبية، فقد كانت هناك معارضة شديدة لعلم التشريح، وكذلك لفكرة التطعيم ضد الجدرى، حتى فكرة التخدير خرج الكثيرون معترضين لأن «بالوجع تلدين أولادك».. إلخ. صراع طويل ومرير، لكنهم نجحوا فى حسمه والانتصار للعلم، أما نحن فما زلنا ندور فى نفس التيه ونعود إلى المربع رقم صفر، ونقوم باجترار نفس الفتاوى والأفكار، وكأننا فى ساقية سرمدية تسحب من البئر لتصب فى نفس البئر، متى يكون الحسم؟ الله أعلم.