منذ أن بدأت حملة تفعيل قانون التبرع بالأعضاء خاصة مادة التبرع من ميت إلى حى، وأنا أنتظر رأى أكبر وأشهر أستاذ طب حالات حرجة فى مصر وهو د. شريف مختار الذى إلى جانب مهنيته وعلمه وإنسانيته يتمتع بثقافة واتساع رؤية يندر أن نجد مثلها اليوم، يقول د. شريف مختار، أستاذ أمراض القلب وطب الحالات الحرجة بجامعة القاهرة، الذى سنعرض رأيه على حلقات: ما بين حقائق علمية مؤكدة واعتبارات دينية ضاغطة وطموحات مهنية طاغية احتدم الجدال وطال النقاش فى قضايا موت المخ ونقل الأعضاء واشتد الحرج فى الأوساط الطبية بعد أن سبقتنا إلى التشريع فى هذا الصدد دول عربية وكانت مصر قبل ذلك هى الرائد والقائد ومحط الأنظار، ويعود هذا الجدال فى رأيى إلى عوامل ثلاثة: أولاً: خلط الأوراق ما بين التبرع بالأعضاء من الأجسام الحية «كالكلى، وفصوص من الكبد». الأمر الذى لم يعد محل نقاش بل وأجمعت عليه آراء الأطباء والفقهاء، وبين نقل أجزاء شبه حية من الجسم بعد إعلان الوفاة التى لا شبهة فيها طبياً «كقرنية العين وصمامات الأورطى وأجزاء من العظام أو استخراج منظمات القلب التى سبق تركيبها فى وقت سابق وما زالت فى عمرها الافتراضى عدة سنوات». ولا يجب أن ننسى أن أخذ قرنية العين من المتوفى بواسطة الطبيب ليس كانتزاع مقلة العين كما حدث فى مستشفى جامعى سابق، وهو ما أدى إلى صدور القرار بحظر المساس بجثث المتوفين وترتب عليه حرمان الآلاف من علاج ناجع لفقدان البصر، بل وأدى إلى حرمان طلبة كليات الطب من درس التشريح العملى والاكتفاء بالنماذج، وإلى حرمان أقسام الباثولوجيا من معرفة أسباب الوفاة عند غموض التشخيص، الأمر الذى انعكس سلبياً على العملية التعليمية وعلى الأبحاث الجامعية بعد أن اقتصر التصريح بتشريح المرضى على الاحتمال الجنائى فقط. لا يمكن مساواة الأمثلة السابقة بعملية انتزاع عضو من مريض ما زال فيه قلب ينبض ودم يتدفق، أى أن أى تشريع صادر ينبغى أن يتجنب التعميم. ثانياً: خصوصية نظرة المصريين للموت وتعاملهم مع المتوفى نتيجة الخلفية الدينية بوجه عام والتاريخ المصرى الموغل فى القدم بمراحله الفرعونية والقبطية والإسلامية، حيث لم يعترف المصرى القديم بالموت وحنّط موتاه وتخيل لهم رحلة أبدية لها بداية وليس لها نهاية ينعم فيها بكل أطايب الدنيا. وللأقباط المصريين نظرتهم الخاصة إلى الموت كما يظهر فى أحزانهم العميقة الممتدة على الراحلين منهم، وجاء الإسلام إلى مصر فزاد على الفكر المصرى التقليدى عن الموت تكريمه للمتوفى «غسله وتكفينه والتعجيل بدفنه» واختلطت تقاليد التحنيط فى مصر القديمة مع الاحتفال بالموتى المصريين فى العصر الإسلامى وما ذكرى الأربعين إلا تخليد للمدة التى تنتهى فيها عملية التحنيط ويصبح الميت جاهزاً للدفن.. هذه الخصوصية أدت إلى تعقيد نظرة المصريين بوجه خاص إلى الموت فاعتبر المساس بالميت اعتداء على قدس من أقداسه ناهيك عن انتزاع أعضائه. ثالثاً: منذ نشأة الرعاية المركزة لم تعد نظرة الناس فى العالم عموماً وفى مصر خصوصاً، إلى مرحلة النهاية نظرة طبيعية فقد أصاب الجميع إبهار الأجهزة الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة، بحيث أصبح من غير المصدق فى نظر البعض أن يموت إنسان داخل وحدات الرعاية مع كل هذه التكنولوجيا ولا نهاية لقصص الكهول الذين يأتى بهم الأبناء إلى وحدات الرعاية وهم فى أواخر السبعينات وبدايات الثمانينات وفى مراحل قصوى من أمراض عديدة ليس أقلها الفشل التنفسى وهبوط القلب وتكاسل الكلى وغيرها، متصورين حقيقة لا مجازاً أن المطلوب إعادة ضبط أجهزة الجسم وعودة المريض إلى سابق عهده ولا جدوى من إفهامهم حدود الطب ومستعصياته. وإذا كان هذا هو الحال فى كهول متعددى المشكلات الصحية فكيف يكون الحال برجال ونساء فى أواسط العمر بلا أمراض سابقة على الإطلاق من المصابين فى الحوادث فأصبحوا فجأة موضوعاً للحديث عن انتزاع أعضائهم وانتظار وفاتهم؟