ما حدث من اكتساح جماهيرى للمسلسل الكورى «لعبة الحبار» وحصوله على أعلى نسبة مشاهدة فى تاريخ الدراما، ليس وليد اليوم ولكنه وليد خطة ترعاها الدولة نفسها وبرعاية الرئيس الكورى شخصياً، المسلسل يحتاج مقالاً مستقلاً سأكتبه وأتناوله بالتحليل لاحقاً، لكن ما نحتاج أن نعرفه ونفهمه ونتعلمه كيف تستغل دولة عمرها سبعون عاماً قواها الناعمة فى قيام وتنمية نهضتها الاقتصادية وتوسيع مساحة تأثيرها الثقافى، بداية نقول إن صناعة «الأنمى» فى كوريا الجنوبية تدر على الدولة نصف مليار دولار سنوياً!! فما بالك لو أضفت الدخل الذى يضخ فى شرايين الدولة من الفرق الموسيقية والسياحة لمشاهدتها والفرجة على أماكن التصوير.. إلخ، يكفى أن تعرف أن الدولة خصصت ١٪ من ميزانيتها لدعم صناعة الترفيه بكل أشكالها الفنية، ودعمت تقديم القروض لشباب الفنانين والمبدعين، وتم إنشاء أقسام إبداع فنى فى جامعات كوريا، وهناك هيئة متخصصة اسمها وكالة المحتوى الإبداعى المتخصصة فى التعرف على ما يرغب فيه الجمهور فى كل دولة على حدة وإنتاج ما يلائمه. كل ما سبق وغيره يندرج تحت ما يسمى «الهاليو» الكورى، موجة الثقافة الكورية التى سيطرت على العالم من أقصاه إلى أقصاه وبسرعة الضوء، لدرجة أن زاد الطلب على تعلم اللغة الكورية وانتشار معاهد تعليمها فى العالم كله، لكن هل جاء هذا الانتشار العالمى بمحض الصدفة؟ بالطبع لا، فالبداية كانت من قمة السلطة حين قال رئيس كوريا الجنوبية الأسبق كيم داى جونج فى خطابه ٢٠٠١، ووصف القوى الناعمة بأنها «صناعة خالية من المداخن»، ومحرك للتنمية الاقتصادية التى تخلق قيمة مضافة عالية، ثم أعلن الرئيس الأسبق روه مو هيون، أن من بين أهم أهدافه الرئيسية أن تصبح كوريا الجنوبية واحدة من «أفضل خمس قوى ذات محتوى فى العالم فى عام 2010»، وفى عام 2017، أعلن الرئيس مون جاى إن، أن هدفه نشر الأفلام والموسيقى والدراما الكورية إلى أكثر من 100 مليون شخص فى غضون خمس سنوات، مما يعنى أن المسألة فيها تخطيط واضح المعالم وإرادة سياسية عاشقة للفن، يساعدها - وهذا هو المهم- ثقافة شعب يحب الفن ولا يتربص به وبمبدعيه، وهذا ما حذرت منه فى مقال الأمس. إليكم بعض الأرقام التى من خلالها ستعرفون كيف ترجمت تلك الأحلام الرئاسية الكورية إلى واقع، كوريا فيها ٢٠٠ استوديو إنتاجى، أدت شعبية مسلسل «أغانى الشتاء» إلى تدفق السياح اليابانيين إلى كوريا عام 2004، وأعلنت وزارة الثقافة والسياحة الكورية أن عدد السياح اليابانيين خلال عام 2004 بلغ حوالى أربعين ألف سائح يابانى بسبب المسلسل فقط، الدعم الحكومى لصناعة الدراما فى عام ٢٠١٥ بلغ ٣٣٠ مليون دولار! أغنية جانجام ستايل اكتسحت اليوتيوب باثنين مليار مشاهدة! أغنية Bonamana لفرقة سوبرجونيور حققت خلال ثلاثة أيام فقط نسبة مشاهدة قياسية بلغت 1٫323٫800 وهو رقم مذهل، اشتهرت الدراما الكورية «الكيدراما» حتى أصبحت توضع لها نسخ بنفس القصة وبنفس الأحداث فى الدرامات الصينية واليابانية والتركية، فى عام 2017 زار كوريا الجنوبية 800 ألف سائح، أى نحو 7% من جميع السائحين، بسبب اهتمامهم بفريق البى تى إس الموسيقى الشهير، الذى نجح فى جذبهم من خلال مبادرة «أحبوا سول مثلما أحبها». الهاليو الكورى نجح فى فرض نفسه على العالم بالذكاء والإرادة، والأهم نجح بثقة القيادة والمجتمع والمبدعين فى أن الفن هو طوق النجاة والرهان الذى لا يخسر أبداً.