المغامر الحقيقى هو الذى يهجر السير فى الطرق المعبدة سلفاً، ويرفض السكن فى البيوت سابقة التجهيز، يرسم طريقه بإرادته ويحدد هدفه بعيداً عن المألوف والبديهى، وفنانة الحلى عزة فهمى من ضمن هؤلاء المغامرين المتمردين، شكلت حياتها بإرادتها الحرة كما تشكل وتروض قطعة الفضة الخرساء الصامتة، حققت حلمها المراوغ وطاردته حتى تحقق جوهرة فى فاترينة القلب والروح، كتابها وسيرتها الذاتية «أحلام لا تنتهى» الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، كتاب فى غاية الأهمية لكل شاب لم يكتشف نفسه بعد، ولكل شابة ما زالت تتلمس طريقها ولم تخلع قناع العادة والألفة بعد حتى تحافظ على رضا المجتمع الذى يفكر بالنيابة عنها، أدهشنى فى الكتاب لغته العامية البكر الطازجة، والتداعى الحر فى السرد الذى يجعل المؤلفة تنتقل من موضوع إلى موضوع آخر ألحَّ عليها، من الممكن ظاهرياً أن تجده مقحماً، لكنه عقل الفنان المزدحم بالأفكار، الذى تنبثق منه شرارة الإبداع بلا مقدمات، كتبته عزة بهذه الروح الفنية التى يكمن سحرها أحياناً فى عفويتها، فترة الصعيد والطفولة مكتوبة بجمال روائى جذاب، خلطة سودانية تركية مصرية، أب مثقف يرحل فى زهرة شبابه، أُم تتحمل عراك الحياة، أخ يستشهد فى حرب الكرامة، عجينة تصهر فى فرن التجربة، لتجعلها فيما بعد تتحمل خشونة الورشة ولهيب صهر المعدن وألم فقد الدفء، دفء المشى على سطر المجتمع وعدم الخروج عن حدود صفحته، حكاياتها عن فترة حلوان وشكل البنات والمجتمع حينذاك يشعل نوستالجيا الحنين إلى زمن كان يقيم الإنسان بضميره لا بلحيته أو حجابه، كان مقدراً ومرسوماً لها قدر موظفة الاستعلامات التى تلتقط فتات الرزق من العمل الخارجى كمهندسة ديكور، لكنها حفرت دربها الخاص ورسمت بورتريهها الحميم بأصابعها، وكان المستفز لكل تلك الطاقة كتاباً ألمانياً فى أول معرض كتاب يتحدث عن الحلى، اشترته بكل مرتبها، وبدأت رحلة الصاغة وخان الخليلى والنحاسين، اختارت أن تكون «الواد بلية» تتعلم من الأسطوات وبكل سعادة ورضا، لذلك أصبحت عزة فهمى التى امتدت شهرتها خارج حدود وطنها الذى يسكنها أكثر مما تسكنه، كانت دائماً فى شغاف القلب وجوانب الروح كلمات الأب الحكيم والأم الحنون، خشونة اليد من النار والأحماض وتراب الفضة، قابلته رقة روح ومعافرة مع الحياة، حكت عن تجربة «السينجل ماذر»، الأم التى تتحمل وتحمى كيان أسرتها وبناتها وتظلل عليهم كشجرة سنديان شامخة فى أحراش الغابة التى لا ترحم، عيناها كانتا ورقة نشاف تمتص كل ما حولها من نقوش وتجارب وزخارف وخبرات، بنت بطوطة التى لم تترك شبراً فى العالم إلا وزارته، ليست زيارة سائح، ولكنها زيارة طبيب الأشعة الذى يكشف أحشاء المدن ويقيس نبضها ودرجة حرارتها وأسرار جمالها وجاذبيتها، كنت أبحث عن كتاب أهديه لابنى بدلاً من كتب تجار التنمية البشرية الذين صار عددهم فى مصر يتجاوز عدد التكاتك! وجدت ضالتى فى هذا الكتاب، وهذا سر جماله الحقيقى، كيف تنجح؟ الإجابة ببساطة إذا صدقت حلمك واشتغلت على نفسك، الكتاب فقط كان يحتاج لبعض الاختصار من منطقة تعلم فن صناعة الحلى، كان مزدحماً بالتفاصيل الدقيقة التى من الممكن أن تفصل القارئ عن خط الكتاب الأساسى، فجمال وروعة الكتاب الحقيقية فى تجربة عزة فهمى الإنسانة التى هى قارة من الفن والإبداع تسكن فضاء عاشقة الفضة.