«أم كلثوم» شخصية استثنائية فى تاريخ الفن العربى، لا يوجد مبدع عربى على مر التاريخ قد حصل على كل هذا الكم من الشهرة والإعجاب الذى يصل إلى حد التقديس، كانت تعامل معاملة الملوك والرؤساء والأباطرة، وكان الاستماع إليها والسلطنة على ضفاف حنجرتها طقساً كالفريضة لكل عربى من المحيط إلى الخليج، لذلك فكتابة رواية عن المسكوت عنه فى حياة كوكب الشرق مغامرة تستحق التسجيل والخوض. اقتحم الكاتب الصحفى حقل الألغام الكلثومى بدون دروع ولا حصانة، عارى الصدر إلا من قلم رشيق ولغة عذبة وروح ساخرة وروح صحفية معافرة قادرة على البحث والتقصى. رواية «حانة الست» ليست مسلسل أم كلثوم، فالمسلسل صورة فوتوغرافية ذات بعد واحد، أما الرواية فهى سونار إبداعى ذو ثلاثة أبعاد، نرى الكواليس السرية لحياة بنت ريفية نشأت فى مجتمع ذكورى يعتبر خلفة البنات عاراً وعبئاً، تخاصم مقاييس الجمال الكلاسيكية، زاد عليها قمع الأب الذى ألبسها كالرجال ووضع العقال البدوى على رأسها وشطب على أى ملمح أنثوى فيها، لا سلاح لها تواجه به أنياب ومخالب العالم إلا حنجرتها مضافاً إليها توابل الغواية الأنثوية المطبوخة فى فرن القهر والانسحاق. عوضت الجروح التى طالتها فى معارك الريف بأظافر تخدش الحوائط والسدود والجدران، وتجعل الطموح بلا سقف، واجهت مكر الساسة وتقلّب السياسة بين ملكية وجمهورية، فقدت حبيبها الأول الشيخ أبوالعلا فى عز الشباب، جعلت من رامى إفراز وعصارة رحيق مزمن مدمن بدون لسع، مباراة شد وجذب أنثوية تعرف أبعاد خريطتها وخطوطها الحمراء بالملليمتر، القصبجى الذى دفعها إلى المقدمة جلس فى الخلف مكسوراً على كرسيه البائس مع أطلال الأمل، حكاية الملحن النجريدى الكازانوفا الذى استخدمته درجة سلم لقمة المجد، كيف تعاملت مع الانتقام الملكى لرفضها الاقتران بواحد من ذوى الدم الأزرق، كيف فشل زواجها من الملحن محمود الشريف؟ لم تكن طاقة الإبداع الكلثومية فى أوتار الحنجرة فقط بل كانت ممتدة إلى كهرباء العقل التى جعلتها تعرف أن العلاقة مع الصحفيين هى جسر إلى المجد وسلاح يذبح ودرع يصد الذبح أيضاً، فكان التابعى ومصطفى أمين هما السياج والجلاد، لماذا قررت الزواج من د. الحفناوى فى هذه السن؟، لماذا قررت التعاون مع منافسها اللدود عبدالوهاب؟ كيف واجهت مرض فرط نشاط الغدة الدرقية؟ كل تلك التفاصيل تضمها جدارية أهميتها فى كسر تابوه قداسة المشاهير والذى يختلف بالطبع عن التشهير والسب، فلكى تفهم المبدع لا بد من سبر أغوار تاريخه، والمجتمع المتحضر هو الذى يتسامح مع خطايا مبدعيه، فالمبدع عصب عارٍ وطاقة فياضة وكبش فداء لإمتاع المتذوق الذى أحياناً يدارى شلل موهبته وجفاف قريحته بافتراس المبدع وتجريسه. خيط رفيع بين تناول المسكوت عنه وتشريح المبدع بمشرط جراح دارس للأناتومى لخدمة المبدع والإبداع، وبين تشريح المبدع بمطواة قرن غزال لتشويهه، كان لا بد من هذه الصدمة الروائية التى نجح فيها محمد بركة لكى يفهم مجتمعنا أن المبدع الحقيقى الذى فى حجم أم كلثوم حالة خاصة، هو غابة مفتوحة متفتحة وأحراش وتلال ووديان نابضة بالحياة وليس قلعة مهجورة محصنة تسكنها الخفافيش.