مع الكورونا عرفنا الخطر والخوف والرعب والذعر، والأخطر أننا افتقدنا التواصل الاجتماعى، افتقدنا الحميمية، ضحينا بالقبلة والحضن والتلامس، حتى المصافحة صارت من الممنوعات، صار العاشق يخاف عشيقته، والجار يحتمى من جاره، والصديق يتهرب من صديقه، الموت ليس أكبر الخسائر لكن أنيميا الحميمية هذه هى أكبر وأخطر الخسائر، لأنها هى الحياة وبدونها تفقد الحياة معناها، بل وتفقد الحضارة معناها. فبداية الحضارة هى رفيق اعتنى برفيقه وتعاطف معه وحماه، وفى هذا المعنى يحكى المدون والكاتب أحمد الديب قصة مهمة وذات مغزى يحدد بها بداية شرارة الحضارة، يقول فيها: طالت بنا العزلة، أو هذا على الأقل ما يفكر فيه السواد الأعظم من الناس بينما يتسرب منهم الصبر مع مرور أيام تدابير التباعد الاجتماعى والإغلاق -الجزئى على الأقل- الذى طال معظم الأنشطة البشرية المعتادة. عن أستاذة الأنثروبولوجى مارجريت ميد حين سألها أحد طلابها عما تعتبره أقدم أثر يشير إلى ظهور حضارة البشر. كان من المتوقع أن تذكر له شيئاً مثل إناء فخارى أو حجر طاحونة أو سلاح للصيد أو حتى صنم غابر، لكنها تمهلت قليلاً قبل أن تجيبه: عظمة فخذ آدمية، كُسرَت ثم التأمَت. شرحت له أن انكسار عظمة الفخذ يحمل -فى المملكة الحيوانية حيث تهيمن شرائع الغاب- حُكماً شبه مؤكد بالموت. بفخذ مكسورة لا يستطيع الكائن -لأسابيع عديدة على الأقل- أن يسعى طلباً للطعام أو أن يهرب مما يطلبه كطعام! وعثورنا على هذه العظمة العتيقة لا يعنى سوى أن شخصاً ما قد قرر البقاء مع رفيقه المصاب والاعتناء به حتى التئام الكسر. إن أول قرار بتقديم يد المساعدة الرحيمة -كما قالت ميد- تجسَّد فى الأرض مُعلناً معه بزوغ فجر الحضارة. لا يسعنا الآن إلا أن نعاود التفكير فى مسألة عظمة الفخذ الآدمية التى اعتبرتها مارجريت ميد أقدم آثار الحضارة. انتهى الاقتباس ولكن الواضح أن العزلة لم تنتهِ بعد، وكل موجة تتلوها أخرى، ومعها نبتعد ولا نحتضن البعض لكى ننقل كهرباء سحر التواصل كل منا إلى الآخر، باختصار ليس الجحيم هم الآخرين بل الجحيم هو العزلة.