أجرى أمس الأول ولى العهد محمد بن سلمان حواراً مع الإعلامى عبدالله المديفر فى منتهى الأهمية، هو نقلة فكرية خطيرة، فقد قال باختصار ما يلزمنى فقط هو الحديث المتواتر وليس أحاديث الآحاد، والمتواتر يمثل مائة حديث تقريباً من بين كل تلك الآلاف الموجودة فى كتب الأحاديث المختلفة، وفى هذه المناسبة لابد أن نتذكر من اقتحموا تلك المعركة منذ سنوات وهوجموا بقسوة وعنف، ومنهم المجتهد جمال البنا الذى أقتبس له فى هذه المساحة لقطة من تلك المعركة التى جاءت ثمرتها بعد موته بسنوات، بل واقتحمها محمد بن سلمان نفسه، يقول جمال البنا: لقد أراد أعداء الإسلام، منذ أن بدأ، أن يكيدوا له كما عرَّفتنا الآية «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» «فصلت: ٢٦»، ولكنهم عجزوا عن اللغو فى القرآن لأنه محفوظ فى الصدور، مثبت على كل وسائل الكتابة، ولذلك التفوا حوله بأن وضعوا أحاديث تحلل الحرام وتحرم الحلال وتسىء إلى الإسلام، وإلى القرآن نفسه. ولم يكن هؤلاء إلا فريقاً واحداً من فرق عديدة، منهم الفرق السياسية ما بين أمويين، وعباسيين، وشيعة، وسنة، ومنهم المذهبيون من معتزلة ومرجئة وقدرية، بل وجد فيهم «الوضاع الصالحون» الذين وضعوا أحاديث «حسبة» لإرهاف الحاسة الدينية ولتعميق أثرها فى النفوس عن طريق أحاديث تقضى بالنعيم لمن يكرر أدعية أو يصلى نوافل، وتنذر بالجحيم لكل من يغنى أو يلهو أو يغفل عن صلاة، ولما رأى بعضهم انصراف الناس عن القرآن وضعوا أحاديث فى فضائل كل سورة.   هذا ما تفيض به كتب الأحاديث نفسها التى تصور ذلك بأن الحديث الصحيح كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود، ولما بدأ رجال الحديث فى تدوين كتبهم وجدوا مئات الألوف من الأحاديث المتداولة، فقد قيل إن أحمد بن حنبل كان يعرف ألف ألف حديث «مليون»، وأن مالكاً كان يعرف ٦٠ ألفاً، وأن البخارى كان يلم بخمسين ألف حديث، وبذل رجال الحديث جهداً بطولياً فى استنقاذ الحديث النبوى من وهدة الموضوعات، فنزلوا بها من مئات الألوف إلى عشرات الألوف ومن عشرات الألوف إلى ما دون العشرة آلاف حتى انتهوا إلى خمسة آلاف أو أقل هى ما جاء فى الصحيحين «البخارى ومسلم». ولكن هذا لم ينقذ الحديث لأن عوامل عديدة أخرى كانت تدفع عملية الوضع مثل سوء النظام السياسى واعتماده على التعصبات المذهبية، ومن انغلاق المجتمع وسيادة الجهالة التى تجعل الجماهير تتقبل الخرافة أكثر مما تتطلب الحقيقة. وقد قرأت أحاديث عما دار بين النبى وزوجاته، فى حين أن الرسول نفسه نهى المسلمين جميعاً عن أن يفضى أحدهم بما كان بينه وبين زوجته، فلا يعقل أن يكون الرسول قد قاله، كما لا يعقل أن تكون إحدى زوجاته قد أشارت إليه، ومع هذا فإن المحدثين الذين تحكمت منهم شهوة «الجمع» أثبتوها فى كتبهم. ووضع البعض مقاييس متشددة للأخذ بالحديث، فواصل بن عطاء لا يؤمن بأحاديث الآحاد، ويتبعه معظم المعتزلة، ووضع «أبوحنيفة» ثمانية ضوابط للأخذ بالحديث، ولكن الشغف بـ«التحديث» والرغبة فيه قضت على كل هذه المعايير، ووصلت حد الفتنة عند بعضهم. قال «ابن مهدى»: «فتنة الحديث أشد من فتنة المال وفتنة الولد، لا تشبه فتنته فتنة، كم من رجل يظن به الخير قد حملته فتنة الحديث على الكذب»، يقول «ابن رجب»: «يشير إلى أن من حدث من الصالحين من غير إتقان وحفظ فإنما حمله على ذلك حب الحديث، والتشبه بالحُفَّاظ، فوقع فى الكذب على النبى وهو لا يعلم، ولو تورع واتقى الله لكف عن ذلك فسلم». وآية هذا أننا نرى أحاديث عديدة تخالف روح الإسلام، والأصول العامة له، بل ما يخالف صريح القرآن.