اختلف المتخصصون فى علوم البحار حول ذاكرة السمك، فمنهم من قال إنها تستمر لمدة ٣ ثوانٍ، ومنهم من قال إنها تستمر لمدة ٣ أشهر، لكن الثابت والمؤكد عندنا من ملاحظاتنا العادية أن السمك يظل يأكل الطعم كلما ذهبنا فى رحلة صيده، وعلى مدار آلاف السنين لم تخبر سمكة صديقاتها وتحذّرها من التهام طعم السنارة، لذلك السمك من الممكن أن تكون له ذاكرة، لكنها ليست ذاكرة تاريخية، فالذاكرة التاريخية يصنعها التراكم وتوثيق هذا التراكم وتخزينه فى الهارد ديسك الوطنى والشعبى والاجتماعى، وما يفعله مسلسل «الاختيار ٢» هو صناعة تلك الذاكرة التاريخية وعلاج المصريين من الذاكرة السمكية، فالذى يخرج علينا بكل تبجُح ونطاعة وجلد سميك ليحدثنا عن المصالحة، هو شخص يراهن على «الزهايمر» المصريين وذاكرتهم السمكية التى تشطب «ديليت» سريعاً كل الأحداث، الوطن الذى يمتلك أعمق وأطول ماضٍ لا يحتفظ به ولا يحفظه، رغم أن المصريين القدماء كانوا حريصين على تسجيل تاريخهم على جدران المعابد، فنحن نهدره فى الثرثرة وننساه بعد دقائق. ما يفعله مسلسل «الاختيار» الآن هو نقش جديد على جدران معابد ذاكرتنا المثقوبة، حتى لا ننسى السبعين كنيسة، ما بين تدمير وحرق وتخريب وقتل، حتى لا ننسى دماء آلاف الضباط والجنود الذين أريقت دماؤهم دفاعاً عن الوطن ضد تلك العصابة المجرمة، حتى لا ننسى مذبحة كرداسة، حتى لا ننسى إلقاء الأطفال من على السطوح، حتى لا ننسى ثأر محمد مبروك الذى فضح عمالتهم وخيانتهم وتخابرهم وتجسّسهم، حتى لا ننسى وننتبه إلى ضعاف القلوب من المتدروشين الذين تسللوا فى غفلة من الزمن لأجهزة حساسة وانقلبوا إلى طابور خامس، حتى لا ننسى الذبح والقتل والترويع باسم الدين، حتى لا ننسى المليارات التى تدفّقت على تلك العصابة بغرض حرق هذا الوطن وتحويله إلى أطلال، حتى لا ننسى تفجير مديريات الأمن، حتى مستشفى الأورام الذى فجره هؤلاء الفجرة القتلة مصاصو الدماء، حتى لا ننسى تدمير المتحف الإسلامى، حتى لا ننسى مذبحة مسجد سيناء وقتل الأبرياء العزل بالرشاشات، حتى لا ننسى كل هذا أبدع المسلسل فى الربط ما بين الواقع والمشاهد الحقيقية، وما بين الدراما، واختار أبطالاً من لحم ودم، لهم لحظات ضعفهم الإنسانى الذى تغلفه قوة الشخصية والإيمان بعدالة القضية، غلفها بلحظات هزار وخفة دم تلطف من جو التوتر والشحن والغضب. التوثيق الدرامى الذى يحدث فى مسلسل الاختيار عمل تاريخى بامتياز، فالتاريخ ليس مجرد سرد فى الكتب لمعارك وقادة وانتصارات وهزائم، الدراما جبرتى جديد ينتشل الذاكرة من الغيبوبة، ويراكم الأحداث، والأهم يحلل ما وراء الأحداث وما هو خلف الكواليس، الدراما الآن هى نحت فى جدار هذا الزمن الذى تلعب فيه الشائعات وتزييفات الوعى وغسل الأدمغة دوراً فى هزائم الشعوب دون إطلاق رصاصة واحدة، لذلك ننتظر «الاختيار ٣» ليجيب لنا عن جذور الإرهاب، ولماذا أصبح هؤلاء الفاشيون ضباعاً بأنياب تراثية ماضوية دموية.