من أكثر الكتب جاذبية وتشويقاً بالنسبة لى كتب السيرة الذاتية، خاصة لو كانت بقلم سياسى مخضرم عاش أكثر من حياة وعمل فى مرحلة من أدق مراحل التاريخ المصرى والعربى، وكتاب «شهادتى.. السياسة الخارجية المصرية» لأمين عام جامعة الدول العربية ووزير الخارجية المصرى السابق أحمد أبوالغيط هو كتاب من تلك النوعية التى لا يمكن أن تتركها حتى آخر حرف فيها، فالكتاب لقارئ موسوعى صاحب ذاكرة فوتوغرافية مدهشة، وأسلوب رشيق ممتع، وعرض فى منتهى السلاسة والجاذبية، وفوق هذا وذاك بقلم رجل وطنى مخلص، استوعب ماضى هذا الوطن جيداً وعرف المخاطر التى تحيط به ويحلم له بمستقبل يليق به مشاركاً كتفاً بكتف فى مسيرة صنع الحضارة والحداثة. الكتاب كنز بمعنى الكلمة، كنز من التجارب والحكايات والتحليلات والرؤى، أهمية الكتاب تنبع من أنه مكتوب بأسلوب روائى وليس بأسلوب أكاديمى جاف أو بارد، من خلال رحلة شخصية وفرت لها الظروف فرصة القراءة بنهم فى مكتبة عامرة متنوعة، والعيش فى بيت يتنفس قضايا الوطن من خلال أب طيار فى الجيش المصرى، ليس طياراً عادياً ولكنه طيار يشارك فى تحديث سلاح الطيران من خلال البعثات والدراسات والتدريبات، طفل حالم بالالتحاق بكلية عسكرية حتى يصبح مثل والده القدوة والنموذج، تحدّث بكل شفافية عن حيرته بين كليات الفنية العسكرية والعلوم والتجارة، ظل معه الحلم ساكناً تلافيف الروح، لذلك كانت خدمته فى «الخارجية» بروح الخدمة العسكرية المقاتلة المنضبطة الحاسمة التى لا تضع أمام عينيها إلا مصلحة مصر، تحدّث عن رحلاته الدبلوماسية التى أحس فى البداية أنها لا تناسب أحلامه، ولكنه دائماً كان واثقاً من أن جهده لن يذهب سدى وأن يد الله ستمتد فى الوقت المناسب. تجربة عريضة ما بين قبرص وموسكو ونيويورك وغيرها، ما بين وزارة الخارجية بمدرستها العريقة، ومجلس الوزراء الذى تعرّف فيه على الصندوق الأسود للجهاز الإدارى والحكومى لأقدم حكومة فى التاريخ، ما بين سفارة فى عاصمة دولة وما بين الأمم المتحدة التى تضم كل دول العالم، لا يمكن لتلك التجارب إلا أن تصهر لنا شخصية لها هذا العمق وتلك الكاريزما، هذا الكتاب الذى حاولت أن أضبط إيقاعى على إيقاعه اللاهث المتصاعد، طرح أسئلة مثل أسئلة فلاسفة الإغريق، وقدّم نبوءات مثل نبوءات زرقاء اليمامة، لماذا مصر بالذات هى بؤرة ومحور ومركز الأحداث؟ لماذا يلمع فجأة ضوء شخص مؤثر مثل أسامة الباز ولماذا يخبو فجأة بدون أسباب معلنة؟ كيف تأثر الرئيس مبارك بطول مدة الحكم وكبر السن فى تقليص حضوره للفعاليات الأفريقية والدولية وبالتالى فى حيوية الدور المصرى وتحميل الخارجية أعباء أكثر وأثقل وأصعب؟ صعوبة دور وزارة الخارجية فى ظل ألوان طيف كثيرة تتدخل فى القرار الخارجى، لو قرأنا الفصل الخاص بأفريقيا ومشاكل نهر النيل، نجد وكأنه يقرأ كف الغيب ويتوقع ما نعيشه الآن، قراءته للقضية الفلسطينية وللواقع العربى وللكواليس الأمريكية، قراءة نحن فى أمسّ الحاجة إليها الآن، زوايا رؤية كثيرة فى الكتاب لا يمكن أن يحيط بها مقال، لكن أهم ما فى الكتاب هو أن كاتبها إنسان مؤمن حتى النخاع بالدولة المدنية الحديثة، بدور العلم حتى فى العلوم الإنسانية، وخاصة فى علوم السياسة والتاريخ، مؤمن بفصل الدين عن السياسة. السفير والوزير والأمين العام أحمد أبوالغيط فى هذا الكتاب روائى ندهته ندّاهة السياسة، ومؤرخ يرسم بريشة فنان، وسياسى يحلم بخيال شاعر عاشق، كل حرف فى هذا الكتاب خلفه همسة حنين ونفحة حب فى أذن وعقل وروح القارئ، تقول: «مصر تستحق كل هذا الجهد والعرق والعشق لأنها بالفعل أم الدنيا».