فى مئوية د. ثروت عكاشة لن نجد أفضل من شقيقه رائد الطب النفسى د. أحمد عكاشة، ليرسم لنا بورتريه شخصية هذا الرائد الثقافى الكبير من خلال قلمه وريشته المبدعة، هذه الكلمات من ذكريات المحاضرة التى ألقاها د. ثروت فى صالون د. أحمد عن الفن والتطهر النفسى، كتب د. أحمد عكاشة: هناك سمات فى شخصية ثروت لا يعرفها الكثيرون عنه، فعادة ما يتّجه إدراك الناس إلى أن الفنان يعيش حياة عشوائية لا يفكر فى الغد، وأنه غير منظم ويأتى إنتاجه خلال لحظة إلهام، وأنه كى يخلق فناً ينبغى عليه الانتظار حتى يهبط عليه الوحى أو تنزل عليه «العصفورة» وأنه يتميز برومانسية غير واقعية ولكن إذا نظرنا إلى سمات ثروت «المثابرة - الإصرار - العمل الجاد - امتصاص الثقافة وهضمها بكل أنواعها»، لوجدنا أنه يعمل حتى انتقاله، ما لا يقل عن ثمانى إلى عشر ساعات يومياً. إن التناقض الشديد فى سماته بين الرومانسية والواقعية والخيال والدوجماتية والإبداع الفنى مع الالتزام الشديد بالدقة والتفاصيل والموضوعية يشير إلى أننا أمام فنان فى ثوب عالم، نقول فى مجال العلوم العصبية والنفسية إن الفص السائد فى مخ هؤلاء الذين يكتبون بأيديهم اليمنى هو الفص الأيسر، وهو الفص المسئول عن المنطق والسببية والتنفيذ والواقعية، أما الفص الأيمن فهو المسئول عن «الزمن - المسافات - التذوق الجمالى - إدراك المشاعر»، وكأنما الفص الأيسر هو فص العالم، والفص الأيمن هو فص الفنان، وعادة ما يتميز الإنسان بتغلب أحد الفصين على الآخر، ولكننا نكتشف عند «ثروت» سيادة الفصين وإلا فكيف نفسر نشأته كضابط فى سلاح الفرسان، وخوضه حرب 1948 مع الولع الشديد بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية؟ وكيف يكتب كتاباً عن الحرب الميكانيكية وفى الوقت نفسه يترجم رومانسيات «جبران خليل جبران» إلى العربية؟ كيف يكتب عن «جنكيز خان»، ثم يصدر كتاب «مولع بفاجنر»؟ كيف يترجم فن الهوى لـ«أوفيد» ويعقبه كتاب عن منمنمات الفنان الواسطى من خلال مقامات الحريرى؟ وكيف أن موسوعاته «العين تسمع والأذن ترى» -وهذا العنوان يحمل فى رأيى المعنى العميق للتذوق الفنى- فالبعض يقول إن الحواس الخمس تعمل فى وقت واحد عندما يهز إدراك الفن وتذوقه النفس البشرية. التذوق الفنى يجعل براعم التذوق فى الفن تحس بالشعر، وتجعل العين تبصر الموسيقى، وتجعل الأذن ترى الصورة، وتجعل حاسة الشم تشبع بالصورة واللحن، وأخيراً حتى حساسية الجلد تصبح هدفاً للتذوق الفنى، أى أن الإنسان الذى يستطيع أن يسمع ويبصر ويشم ويتذوق ويحس بالموسيقى هو الذى يحقّق الإشباع الفنى ويبلغ مرحلة تحقيق الذات. أثناء قيامه بعمله فى باريس كان يتقدّم لرسالة الدكتوراه فى الأدب العربى من جامعة السوربون عن «ابن قتيبة». هذا هو المقصود من سردى المطول كى أصل إلى تحليل شخصية «ثروت»: «التناقض والتفانى مع قطبى الواقعية والوطنية والرومانسية والإنسانية، وقد ترك ثروت منصبه كوزير للثقافة مرتين، كان بينهما رئيساً لمجلس إدارة البنك الأهلى، حيث جعل البنك يقتنى أجمل اللوحات المصوّرة والمنحوتات المصرية، وتبنى عدة مواقف ثقافية كمعظم البنوك العالمية. إن هذه الأمثلة تعزّز سيادة فصى مخ ثروت: الفص الأيسر، العالم الدقيق الموضوعى المنظم المثابر الجاد، مع الفص الأيمن، الفنان الرومانسى الشاعرى المتذوق للفن بفروعه كافة، من موسيقى إلى أدب إلى شعر إلى تصوير إلى نحت، إلى الفروسية والشهامة والحفاظ على الكرامة، وهو التباين أو التناقض الذى لم أجده خلال احترافى للسلوك الإنسانى لمدة ستين عاماً، لم أجد هذا التزاوج بين الواقعية والرومانسية أو هذا التناغم بين الرقة والشهامة، لقد ضحى «ثروت» بالصورة الاجتماعية والإعلامية فى سبيل التحقيق من الجدية والكيف، حيث كانت علاقته بالإعلام خلال فترة توليه مسئولية وزارة الثقافة، لا تتمتع بما يقال عنه اليوم من التلميع الإعلامى!!