ذكرى محمود السعدنى لا يمكن أن تتحول إلى عبارات رثاء وسرادق عزاء فقط، لا يمكن للولد الشقى أن نختزله فى عبارات إشادة وعبرات بكاء، فالسعدنى الذى ملأ الدنيا مرحاً وحكياً وحباً وشقاوة، والذى جرب بريق الشهرة ومرارة المنفى، لا يمكن أن تمر ذكراه دون بصمة، ودون أن يكون حاضراً بيننا، وحضوره لابد أن يكون عبر مدرسته التى أخرجت لنا تلاميذ فى فن الكتابة الساخرة التى صارت الآن سوق عكاظ الأدب المصرى المعاصر، والتى تحقق كتبها أعلى المبيعات، والتى صار لها مريدون ودراويش وعشاق وجالية، لابد أن تتناسب الذكرى مع قامة السعدنى.

عمنا السعدنى حفر وعبّد ومهّد طريق الكتابة الساخرة، ونحت أسلوباً متفرداً، واخترع قاموساً خاصاً، لهذا لابد أن تقام مسابقة توزع جوائزها فى ذكراه كل سنة للكتابة الساخرة، أفضل كتاب وأفضل مقال، ومن الممكن أن تتسع الدائرة بعد ذلك لتضم أفضل كاريكاتير وأفضل مسلسل كوميدى... إلخ، فقد وهب السعدنى قلمه وسخر موهبته لنوع خاص جداً من الكتابة، كانت الكتابة الساخرة تصنف على أنها أقل درجة بل درجات مما نطلق عليه الكتابة الجادة،

رغم أننى لا أعترف بأن الكتابة الساخرة كتابة غير جادة، كان العرف السائد أن ذلك النوع من الكتابة هو نتيجة ضعف وعدم قدرة من الكاتب الصحفى على التصدى للكتابة السياسية الرصينة، وكأن الرصانة هى مرادف التجهم، مثلما كان النقاد فى الماضى يعتبرون شعر صلاح عبدالصبور وحجازى عدم مقدرة على كتابة الشعر العمودى، وأثبت السعدنى أنه يكتب بهذا النفس الساخر ليس استسهالاً بل وصولاً لقلب وعقل القارئ، وتغيير فكره، واتضح أن هذا النوع من الكتابة هو أصعب درجات الكتابة، لكن أيضاً أثبتت كتابة السعدنى وسخريته الرشيقة أن هناك فرقاً بين السخرية والردح، إن السخرية فن صعب لا يجيده إلا الأذكياء.

أتمنى من أكرم السعدنى، الصديق الصحفى الذى ورث جينات الموهبة، أن يشرف على تلك الجائزة، وكثير منا نحن الذين تعلمنا من أسلوب السعدنى الكبير على استعداد لمساندته، لأن هذه الجائزة ليست تكريماً للسعدنى، فهو أكبر من التكريم، ولا من باب التذكره، لأنه محفور فى الأفئدة، ولكنها حفاظ على تلك المكانة التى وصلت إليها الكتابة الساخرة، وتخليصها من الطحالب والأعشاب التى خلطت ما بين السخرية والقباحة فى كثير من الأحيان.

قلم محمود السعدنى فى سخريته، سواء الصحفية أو القصصية، قلم رشيق، أسلوب محمود السعدنى أسلوب شيك، أما قدرته على الحكى والإمساك بتلابيبك وهو يقص عليك ولو حادثاً عابراً، فهى العبقرية متجسدة!، رحم الله محمود السعدنى بقدر ما أمتعنا وأسعدنا واستفز عقولنا وطبطب على مشاعرنا.