نستكمل سين وجيم عن معنى الحداثة مع ما كتبه المفكر المغربى الكبير سعيد ناشيد، يقول ناشيد: سؤال، لماذا تعتبر الحداثة عصراً من عصور الحضارة البشرية برمتها رغم أنها ظهرت فى الغرب حصراً، ولا تزال محصورة فيه رغم بعض الاستثناءات؟ لماذا لا نقول، الحداثة خاصية غربية وكفى؟! جواب، لقد تم اكتشاف الكتابة فى أماكن جغرافية محددة، وكان تعميمها عملية شاقة تعرضت إلى أشكال من المقاومة الشرسة من طرف كثير من الثقافات الشفهية، غير أن عصر الكتابة فرض نفسه على الجميع، وفرض احترام الجميع، وهو يؤرخ للبشرية جمعاء. يمكننا أن نقول الشىء نفسه عن اكتشاف القوانين، والنار، والموسيقى، والمعمار، والزواج، والمدن، والسلطة، والرياضيات، إلخ. كذلك الحال بالنسبة للمبادئ الأساسية للحداثة، التى تؤرخ لعصر متقدم من عصور الحضارة البشرية برمتها. ذلك أن الحضارة الإنسانية تمتلك مراحل عامة من التطور الإجمالى بصرف النظر عن الحضارات المحلية التى قد تساير وقد تتخلف. طبعاً داخل ذلك البعد الكونى لتطور الحضارة البشرية هناك خصوصيات لحضارات وثقافات وأشكال تعبير محلية، لكن ذلك كله لا يلغى الأساسيات الكونية. مثلاً، عصر الكتابة كونى، لكن الخصوصيات تظهر فى مستوى رسم الحروف، وأدوات الكتابة، وما إلى ذلك من تعبيرات مختلفة عن الجوهر الكونى نفسه والمتمثل فى فعل الكتابة. مثال آخر، تختلف الألبسة باختلاف الثقافة والمناخ والجغرافيا، لكن قرار الإنسان الذى خُلق بلا فرو ولا ريش بأن يرتدى اللباس، هو حدث كونى، سرعان ما سيمثل عصراً جديداً من عصور الحضارة البشرية. كذلك القول عن الحداثة، إنها عصر من عصور الحضارة الإنسانية، من حيث تبنى قيم العلم والعقل والحرية، وبحيث يمثل اختلاف الدساتير وقوانين الاقتراع وتنظيم العمل، مجرد تعبيرات محلية عن الجوهر الكونى للحداثة السياسية والمتمثل فى التعاقد الاجتماعى بين الناس باعتبارهم ذوات مستقلة، متساوية، ومتعايشة. سؤال، قلتَ الحداثة السياسية، هل تقصد وجود حداثات؟ جواب، يمكن الحديث عن حداثة فنية نشأت فى إيطاليا، وحداثة علمية نشأت فى بريطانيا، وحداثة سياسية نشأت فى فرنسا، وحداثة فلسفية نشأت فى ألمانيا، وحداثة اقتصادية نشأت فى أمريكا، إلخ. لكن هناك مشتركاً إجمالياً بين هذه الحداثات كلها. سؤال، ما هو ذلك المشترك الإجمالى؟ جواب، تحيل الحداثة إجمالاً إلى رؤية جديدة إلى العالم قائمة على الأسس التالية: أولاً، تفرد الفرد (الحرية، الذات، الوعى، الإرادة، إلخ). المقصود بتفرد الفرد هو الفرد باعتباره ذاتاً مفكرة بلغة ديكارت، وباعتباره وجوداً لذاته ليس وسيلة لأى غايات أخرى، ولا يخضع لأى قيمة تبادلية، وفق توضيح كانط، وبالتالى فهو مستقل عن الجماعة التى يتقاسم معها الخبز والأرض والحياة، له إرادته وميوله وأذواقه وذكاؤه وقدره الخاص، له أصالته فى الوجود. وهو يمتلك ضميراً أخلاقياً كافياً لتوجيهه حين لا يتم الحجر عليه كما تفعل مجتمعات ما قبل الحداثة، التى يعتبر فيها الفرد كائناً لأجل غايات أخرى. مثلاً، فى العالم القديم دور العبد خدمة السيد، دور المرأة خدمة الرجل، دور الأبناء طاعة الآباء، دور الجمهور طاعة الإمبراطور، دور الإنسان عبادة الله، إلخ. فى الحداثة الفرد بلا غاية. هذا له وجه دراماتيكى يزعج الكثيرين، لكنه الحقيقة العارية بلا أوهام. لا تخلو الأوهام من إغراء لكنها أوهام فى النهاية. ونستكمل فى المقال القادم باقى الأسس.