نحن - مدمنى خداع النفس - لا بد أن نقر ونعترف بأننا لا بد أن نخضع لجلسات سحب مخدر الخرافة والتفكير بالتمنى من دمائنا التى تشبعت به منذ قرون طويلة، عندما نشرت أخبار اكتشاف فاكسين «كوفيد ١٩» الذى ستنتجه شركة فايزر مع «بيونتيك»، سرعان ما تحركت الغدة الدينية لدينا، وأطلقنا على الفاكسين صفة الإسلامى، لأن الطبيب صاحب «بيونتيك» أوجور شاهين وزوجته من تركيا، وأقيمت الأفراح والليالى الملاح، وسمعنا الصيحات والتكبيرات من كل حدب وصوب، وبالبحث والتقصى ثبت أن الزوجة مسيحية كاثوليكية، وتلك كانت أولى الصدمات، أما ثانى الصدمات فكانت أن الزوج قد وُلد فى الإسكندرونة ذات الأغلبية العلوية، وما أدراك كم تعرض العلويون ومعهم الأكراد لاضطهاد العثمانيين والطوائف الأخرى من قديم الأزل، وبالطبع ليس نحن من خلقنا وصنعنا معركة نسب الفاكسين وديانته، ولكنهم هم المفتعلون، وما كتبته ليس ضرباً لكرسى فى كلوب الفرح السلفى، ولكنه بحث عن الحقيقة، وإعادة للأمور إلى نصابها، واحترام لمنهج العلم الذى لا يمنح اكتشافاته عمامة أو صليباً أو شمعداناً، ولا ينصب علماءه وعباقرته شيوخاً أو قساوسة أو حاخامات. د. سولك الذى اكتشف لقاح شلل الأطفال وأنقذ أطفال البشرية من المصير المؤلم، هل عندما اكتشفه فرض على الأمريكان الذين اضطهدوه فى شبابه لكونه يهودياً، أن يكتبوا عليه اللقاح أو الفاكسين اليهودى، وأن يرسموا عليه نجمة داود؟!، بالعكس عندما أخبروه أن من حقه ملايين الدولارات براءة اختراع، قال: لو كان ضوء الشمس يتلقى ثمن براءة الاختراع، لتلقَّيت أنا. ورفض «سولك»، وهكذا كل العلماء الذين تشربوا روح العلم، هم قديسون فى محرابه، لا يسألون عن ديانة الباحث أو مئذنة المعمل أو ناقوس المختبر. أوجور شاهين هو ابن المنظومة العلمانية فى ألمانيا، استفاد من العلمانية بامتياز فصار مواطناً عبقرياً، لا مهاجراً ساخطاً، هاجر أبوه إليها لينجو من التصنيف الطائفى، هارباً من ثقافة الفرقة الناجية والولاء والبراء التى تحتكر الجنة وتعتبر نفسها فسطاط الإيمان وما عداها دار حرب، كانت لديه نبوءة زرقاء اليمامة، واثقاً من أن «أتاتورك» سيخلفه «أردوغان»، وأن العلمانية التركية ستبتلعها الإخوانية العثمانية فى المستقبل. لو ظل «شاهين» منتمياً لثقافة قمع السؤال وكبت الإبداع وتقديس الماضى وعبادة العنعنة، لكان آخره وقمة سقفه الإبداعى حلاق صحة فى شوارع إسطنبول، يروج للحجامة، ويستأجر كشكاً لبيع برطمانات بول البعير!!، كفانا أساطير وخرافات نطبل لها ونزمر من فرط نزف جروحنا النرجسية، وإحساسنا العميق بالدونية، تارة نقول إن اللاعب «ميسى» قد نطق الشهادتين، وتارة نقول إن «هارفارد» قد كتبت فى ساحتها أن تراثنا المقدس هو الأكثر عدلاً فى العالم، ناهيك عن الوجبة اليومية التى نحتفل بها بفلان الذى دخل الإسلام، وعلان الذى شاهد «جبريل» يهبط فى «رابعة»، وترتان الذى رأى الحمامات البيض فى منامه والتى جعلته يهرول من دينه ليلحق بالحور العين!!، كل يوم بل كل ثانية نحقن أنفسنا بمخدر أننا الأفضل والأسمى والأكثر تديناً والأنقى أخلاقاً، وأننا لا بد أن نسود البشرية حتى ينصلح حال الدنيا، ونجاهد لغزو أرجاء الأرض الأربعة حتى يسود الدين الحق. مصحة العقلانية هى الحل، ومظلة الإنسانية هى الواقية والحامية من هجير الجهل والإقصاء وتصحر التخلف والكراهية.