الفيلسوف الراحل العظيم د. فؤاد زكريا، فارس من فرسان التنوير، وقد تعلمت منه شخصياً حين حضرت مناظرته الشهيرة مع تيار الإخوان فى نقابة الأطباء، كيف تقول الحق والصدق وما تقتنع به حتى ولو خالفت المزاج السائد، وكيف تفحم بمنطقك كل حراس الجهل والتكفير، كان قوياً، مرتب العقل، قوى الحجة، ومن أبرز وأهم مواقفه الجريئة حين واجه شيخ الأزهر د. عبدالحليم محمود على صفحات «الأهرام»، معارضاً ترويج الشيخ لأسطورة أن الملائكة هى التى حاربت وحطمت خط بارليف، ووجد د. زكريا أن مثل تلك الأقوال هى إهدار لجهد المصريين الذين خططوا وتعبوا وتلافوا كل أخطاء عشوائية هزيمة ٦٧، ليأتى شيخ الأزهر وقتها ويشطب عليها بأستيكة، كتب د. فؤاد زكريا وقتها مقالاً نارياً، وهذه اقتباسات منه: «أستطيع أن أفهم، وإن لم أكن أستطيع أن أغتفر، انتشار ألوان من التفكير اللاعقلى بيننا بعد يونيو ١٩٦٧، أستطيع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزيمة غير المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شىء يسير فى طريق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت على انتشار موجات من التفكير اللاعقلى، وجعلت الأذهان أكثر استعداداً لقبول تفسيرات غيبية للظواهر، وهيأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القديمة، وتركن إلى التصديق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فيها أى نوع من التعويض». ويواصل د. فؤاد زكريا انتقاده قائلاً: «على أنه إذا كان انتشار التفكير اللاعقلى أمراً مفهوماً، بالرغم من أنه لا يغتفر فى ظروف الهزيمة فإن الأمر الذى لا يمكن فهمه ولا اغتفاره هو أن تظهر ألوان جديدة من هذا التفكير بعد السادس من أكتوبر، فذلك لأننا كنا قد أعددنا العدة لكل شىء منذ زمن طويل، وحسبنا لكل عامل من العوامل حساباً، وأجرينا مئات التجارب على العبور، وكان واضحاً أن التدريب الشاق والحساب العلمى الدقيق والتوقيت الذكى والتضليل المخطط والمرسوم للعدو، وفوق ذلك كله حماسة الجندى المصرى وشجاعته، كل هذه كانت العوامل الرئيسية فى النجاح الباهر الذى أحرزناه فى العبور وفى معارك الضفة الشرقية، ومع ذلك فقد عادت التعليلات اللاعقلية تطل برأسها من جديد، وكان ما يثير الإشفاق فى هذه التعليلات هو أنها تهيب بقوى غير منظورة قيل إنها حاربت معنا، ولم يدرك مرددو هذه الأقاويل أن تصديقها معناه أن الذى انتزع النصر ليس هو الجندى المصرى الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطيط والحساب الدقيق لم يكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث، بل إن تصديق هذه الأقاويل يعنى ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها يفترض أن ما حدث كان «معجزة»، وأن الأمور لو تركت لكى تسير فى مجراها الطبيعى لما أمكن أن يحدث ما حدث، ولست أستطيع أن أتصور فى ظروف التضحية الهائلة التى مر بها جيشنا جحوداً أشد من ذلك الذى ينطوى عليه هذا الافتراض الضمنى».