فى الذكرى الثلاثين لرحيل المعلم العاشر د. لويس عوض، لا بد أن يكون احتفالنا به أكبر من مجرد كتابة مقال رثاء، إنه خطوة مهمة فى رحلة وتاريخ ثقافة التنوير، لا يمكن تأريخ إسهام الفكر الليبرالى المصرى فى ثقافة وعقل هذا الوطن بدون ذكر اسم د. لويس عوض، لذلك سأستعيد درساً مهماً فى مسيرته كنت قد كتبت عنه من قبل، الدرس لنا قبل أن يكون له، لأنه صار يتكرر وكأننا لم نتعلم أو نعتبر، لويس عوض هذا المفكر الكبير صياد اللآلئ الذى يدين له معظم مثقفينا من شعراء وكتاب مسرح وروائيين وحتى سينمائيين وفنانين تشكيليين باكتشافهم وكشف المذاهب الفنية الغربية الجديدة لهم وصقل موهبتهم بالاطلاع من خلال نافذته الثقافية على الحضارة الأوروبية من خلال ترجماته ورحلاته وكتاباته النقدية، كان مقال لويس عوض فى «الأهرام» عن أى فنان أو كاتب أو عمل فنى بمثابة تدشين لموهبته وولادة جديدة له. تعرّض هذا المفكر العظيم خلال رحلته الثرية إلى ضربات من مجتمعه ضيق الصدر بالمبدعين بدأت باعتقاله بعد أزمة 1954 ولم تنتهِ بمنعه من استكمال مقالاته فى «الأهرام» عن الأفغانى بحجة أن المقالات ضاعت!! إلا أن مصادرة كتابه المهم «مقدمة فى فقه اللغة العربية» تظل تمثل منعطفاً خطيراً وكارثياً فى تاريخ المصادرة وقمع الفكر من خلال السلطة الدينية.. استدعاء تفاصيل هذه المصادرة يعطينا دروساً ذات دلالات مهمة فى معركتنا من أجل التنوير التى نخوضها فى هذه الأيام، فالكتاب كان صادراً عام 1981 من مؤسسة تابعة للدولة وهى هيئة الكتاب، أى أنه مر بكل الخطوات الرسمية القانونية التى تقرها الدولة لإصدار كتاب، ثانياً الكتاب لم يناقش قضية دينية ولم يتطرق إلى العقائد والعبادات من قريب أو بعيد، لكنه كتاب متخصص فى علوم اللغة التى تطبق الآن على كل لغات العالم، وليست اللغة العربية استثناء من هذه القاعدة أو محرمة على تلك العلوم، لكن الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية كان لهما رأى آخر وهو أن اللغة العربية مقدسة وسامية عن كل اللغات ولا ينفع أبداً أن تخضع لمشرط تلك العلوم الغربية المستوردة، يعنى ببساطة لغة على رأسها ريشة!! كان رأى لويس عوض أن أى لغة فى الدنيا هى طبقات جيولوجية متراكمة ليست منعزلة مقدسة فى «جيتو» خاص غير قابلة للتلاقح مع اللغات الأخرى إنما هى فى علاقة تأثير وتأثر، واللغة العربية ليست استثناء، والجذر والأصول والعلاقة موجودة مع اللغات الهندية والأوروبية، وأتى بأدلة مستفيداً من علوم لغوية كثيرة صارت مفرداتها مستقرة فى العالم كله، كان للشيوخ رأى آخر فهم يعتبرون اللغة العربية مقدسة غير قابلة للتأثر فهى صافية نقية وأى لعب فى هذه البديهية المقدسة سيعرّض القرآن نفسه للتلاعب والشك، خائفين مرعوبين من إيقاظ فكر المعتزلة بخلق القرآن وبالتالى عدم قدم اللغة السرمدى وصفائها الماسى الشفاف غير القابل للتلوث باللغات الأرضية النجسة!!   وهمٌ وخيال سكن تلك العقول، ويا ليته وقف عند حد التوهم أو التوجس وكتابة نقد لاذع أو بحث مفحم يخرس لويس عوض وانتهى الموضوع، لكنهم لجأوا إلى الحل السهل وهو المصادرة، تصرفت المحكمة فى البداية تصرفاً بديهياً يليق بمشكلة تتعلق باللغة العربية بالعرض على المختص وهو مجمع اللغة العربية، تكونت لجنة ثلاثية من أستاذ الفلسفة توفيق الطويل والكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى والشيخ الجليل الباقورى، جاء تقرير اللجنة فى صالح الكتاب ومُديناً للمصادرة، وكان أكثرهم إدانة ورفضاً للمصادرة الشيخ الباقورى، هذا الرجل المستنير الذى نفتقد قدوته هذه الأيام. المدهش ما حدث بعد ذلك، وهو إصرار مجمع البحوث الإسلامية على المصادرة، وتصريح سكرتير المجمع الشيخ عبدالمهيمن الفقى بأن المجمع هو جهة الاختصاص الوحيدة. وللأسف رضخت المحكمة لهذا التعنت الكهنوتى وأمرت بمصادرة الكتاب فى واحدة من أكثر الأيام سواداً على الثقافة المصرية، اغتيل لويس عوض معنوياً وظل يعيش بهذا الجرح النازف إلى أن رحل عن عالمنا وهو لا يعرف كيف لبلد أن يحارب الثقافة والرأى والفكر بهذا الشكل، وكيف لمحاكم التفتيش التى انتهت من العالم أن تظل متحكمة ومهيمنة على العقول فى القرن العشرين؟! وتساءل: «ما جدوى كليات الآداب وأقسام اللغة العربية إذا كانت المناقشة العلمية لجذور اللغة قضية أمن دولة وتكفير؟!». لعلنا اليوم ونحن نقرأ تفاصيل تلك القضية أن نتعلم ألا نمنح سلطات مقدسة لهيئة أو مؤسسة مهما كانت وألا نجعلها دولة داخل الدولة فنمنحها الوصاية على عقولنا وفكرنا وإلا سيكون الحديث عن ثورة الخطاب الدينى مجرد حرث فى البحر.