لأنه دمياطى وأنا أيضاً، لذلك أعرف أن صفة «الأويمجى» سيفرح بها السيناريست الفنان «بشير الديك»، لأن بشير يعرف مثلى قيمة هذا الفن الدمياطى النادر فى عالم الأثاث والموبيليا، فى عيد ميلاده السادس والسبعين لم أجد تشبيهاً لهذا الفنان، الذى يكتب بمزاج، وكأنه يغازل قطعة الخشب الصامتة الخرساء بأزميله فيُنطقها، إلا هذا التشبيه، مهنة الأويمجى الفنان تنقرض فى دمياط، وكذلك مهنة السيناريست الفنان المزاجنجى الحريف هى أيضاً تنقرض، السيناريست الذى يكتب بروح الهواية حتى آخر لحظة، هذا النوع يختفى أيضاً مثله مثل كل الأشياء الجميلة التى تتسرّب من بين أيدينا، الأويمجى نحّات يراقص زوايا الخشب ويداعب المساحة المصمتة الصامتة، وبسن أزميله يبرز ويخسف، ويعلو ويهبط، ويقشّر ويبطن، حتى يبعث الروح فى هذا الجماد الذى ما زال يحمل رائحة فتات قشور الخشب فى الغابات، فى ورشته يمارس النحت على جسد الخشب، تلك المادة التى لا تحمل صلابة الجرانيت، لكنها تحمل ليونة الجذع الذى ارتوى من الجذور فى أرض تفصلنا عنها آلاف الأميال، لكنها تلتحم بخلايانا كتوأم روح، تحمل كل ألغاز الحياة، ما زال فيها نفس الحياة رغم ضربات الفأس الذى فصلها عن أمها الأرض، وكذلك بشير الديك، يتعامل مع الصفحة البيضاء، كتعامل عاشق متيم بأنثى رقيقة، يهدهدها بسن القلم، ويقبلها ويقابلها بأصابع تبث الروح فى خرس الورق المستفز، يصنع تلك الأويما الفنية التى عليها خاتم بشير الديك، قبل أن تقتحم المهنة الأويمات الصينية الجاهزة، الإسطمبات. بشير الديك عدو الإسطمبة والتقليدى والمعلب وسابق التجهيز، يمارس كتابة السيناريو بروح النحات الموسيقار، يصرخ كما صرخ مايكل أنجلو لتمثاله «انطق أيها الأخرس»، وتجتاحه حمى الفن كما اجتاحت موتسارت الذى حسده سالييرى أستاذ الموسيقى الأكاديمى على المدد الذى يهبط عليه كالوحى، أبدع مع عاطف الطيب «سواق الأوتوبيس» فى كونشرتو سينمائى فجر الدمع فى المآقى، عندما وجّه نور الشريف السائق البسيط لكمته لهذا الحرامى العابر، كان يوجّهها لمجتمع دهس تلك الطبقة وسمح للطفيليين بأن يصعدوا على جثتها، وفى «ضد الحكومة» فضح الفساد فى الطبقة الأعلى بعد تحلل وانقراض الطبقة الوسطى، وبعد أن صارت الحياة محل سمسرة! ومع المبدع محمد خان قدّم «الحريف»، أنشودة المهمّشين فى الأرض على شريط السيلولويد وبكرة النيجاتيف، لاعب الكرة الشراب الذى يتردّد صدى أنفاسه فى صدرك أنت قبل تردّدها فى صدره، تراقبه وهو يصارع من أجل النفاذ من ثقب إبرة لكى يحيا، أو بالأصح لكى يعيش، مجرد عيشة، تاريخ بشير الديك مع فن كتابة السيناريو طويل وثرى ويحتاج إلى مجلدات، لكن أحياناً إشارة الأصبع تحتوى أكثر من احتضان الأيدى، السيناريو الذى صرنا نسميه «الورق»، وصار معناه الحقيقى عند النجوم الجُدد، مجرد ورق تواليت، يُستخدم ثم يُلقى إلى المجهول. حاول بشير الديك أن يستعيد لهذا الورق مكانته وبريقه وقدسيته، لكنه استيقظ ذات يوم ليعرف أن النجم غير رأيه ولن يظهر المسلسل، ذلك المسلسل الذى بدأ «بشير» الكتابة فيه بالفعل، وأنجز عدداً من الحلقات، لكن السيناريست صار آخر من يعلم، للأسف ما زال الديك يؤذن، لكن الفجر هو الذى غاب.