ربع قرن مرت على رحيل عاطف الطيب، مندوب الغلابة وسفير الطبقة المتوسطة على شاشة السينما، ناقل صرخة وآهة الموجوعين فى كواليس الفن السابع، ما زلت أتذكر يوم رحيله والفنان أبو بكر عزت ومعه صلاح السعدنى يبكيان بحرارة وبمرارة، فقد كان عاطف الطيب قبل أن يدخل غرفة العمليات يضحك معهما رغم أنه كان مقدماً على جراحة قلب مفتوح، كان الخبر مفجعاً، مات عاطف أثناء الجراحة، تبخرت فجأة المشاريع التى ازدحم بها عقله اليقظ، اختفت كل المشاهد واللقطات التى كان يجهزها بعينه اللماحة، رحل عاطف الطيب وقلبه المنهك قد خذله برغم نبض الحب الذى أغدقه على كل البشر. كان «سواق الأوتوبيس» هو الجسر الذى عبر به عاطف الطيب إلى قلب وعقل جيلنا المتمرد، كنا نعشق صلاح أبوسيف، وكنا شبه متأكدين من أنه قد بلغ أعلى سقف الواقعية وأنه لن يأتى مخرج يستطيع تجاوز هذا السقف، لكن عاطف الطيب فعلها وبمنتهى الاقتدار والعذوبة، كان شاعر الواقعية، فلقد بكيت أثناء الفرجة على هذا الفيلم فى مشاهد الخذلان للبطل السواق وهو يبحث عن حل عند أزواج أخواته البنات، تارة يهرب منه تاجر الموبيليا ليصلى جماعة فى رأس البر، وتارة أخرى يتحجج المهرب بضيق ذات اليد فى بورسعيد، ورشة النجارة لم تكن مجرد مكان لحرفة أو مهنة ولكنها كانت دفء الوطن الذى هجرته الضباع ولم تعد تهتم به إلا بعد رحيل الكبير رب العائلة. كان جواز السفر الثانى إلى قلوبنا وعقولنا هو فيلم «البرىء» الذى شاهدته فى مهرجان القاهرة السينمائى كاملاً ثم عرفت فيما بعد بأن النهاية قد حذفت بناء على وشاية من كاتب كبير وقرار من وزراء كبار حضروا خصيصاً لمشاهدة الفيلم بناء على تلك الوشاية بأنه خطر على الأمن القومى!!، ولأن عاطف الطيب ومثله وحيد حامد من نوعية مثقفى زرقاء اليمامة الذين يحسون بالخطر قبل وقوعه، فقد تحققت النبوءة وتمرد عساكر الأمن المركزى فى الحادث الشهير، وكأن «الطيب» كان يقرأ الغيب. جاء «الحب فوق هضبة الهرم» ليلمس وتراً حساساً فى هذا الجيل وهو وتر أحلام الحب المجهضة، شاب وفتاة لا يجدان مكاناً لتبادل كلمات الحب وممارسة الحب، مجرد الزواج ليس مسوغاً، لكن أين المكان ومرتبه بالكاد لا يكفى أسبوعاً!!، إنه الجوع إلى الحب، عاطف الطيب كان عبقرياً فى اكتشاف كنوز أبطال أفلامه، نور الشريف مثّل معه أفضل أفلامه وكذلك أحمد زكى وممدوح عبدالعليم والسعدنى ومحمود عبدالعزيز... إلخ، حتى أصحاب الأدوار الصغيرة كانوا متميزين، وأكبر مثال هو الفنان حمدى الوزير الذى ارتبط اسمه بعاطف الطيب، الفيلم كان لا بد أن يعكس هماً عاماً وقضية مؤرقة، لكنه بالرغم من ذلك لم يكن خطيباً ولا واعظاً ويعرف أنه يتكلم بلغة الصورة، كان شاعراً سينمائياً.. وأرجوكم بتلك المناسبة أن تشاهدوا فيلمه المظلوم نقدياً «الزمار» لتعرفوا ماذا أقصد بشاعر السينما. ربع قرن وما زلت فى العقل والقلب كالوشم لن ننساك يا عاطف.