ألف تحية وكل الإجلال والاحترام للفنان هشام صالح سليم، هذا الفنان الذى أخذ موقفاً حضارياً رفيعاً عندما احترم كلمة العلم ووافق على تحويل ابنته نورا إلى ولد اسمه نور، ساعدها فى التخلص من عبء نفسى وجسدى مرعب ورهيب يكاد يودى بحياة المريض ويدفعه إلى الانتحار، وهذا يفتح باب مناقشة قضية التحول الجنسى بكل صراحة وشفافية وعلمية، أعرف أننى أخوض فى حقل ألغام، لكنى قد تعودت على ذلك، ومؤمن تماماً بأن الصدمات الكهربائية هى فقط التى ستعالج شيزوفرينيا مجتمعنا المريض. القهر الجنسى له صور متعددة، ولكن من أكثر صوره بشاعة هو ما نفعله بمن يريد تحويل جنسه، وخاصة إذا طلب رجل أن يتحول لامرأة، فلأنه يريد أن يتحول من الأرقى إلى الأدنى، وهى الرتب التى منحها له المجتمع، فإن نفس المجتمع يرفض وبشدة أن ينقص مجتمع الرجال الفحول فرداً وأن يزيد مجتمع النسوة المائعات «المائصات» واحدة. وقبل أن نبدأ لا بد من البحث فى شريط الذكريات الذى يحمل مشهدين المسافة بينهما هى المسافة بين التقدم والتخلف ورؤية تفاصيلهما عن قرب، وبشىء بسيط من التحليل تفضح كم أصبحنا نعانى الردة والتقهقر، وتكشف عن أننا فضّلنا طريق الجهل السهل بعد أن زرعنا طريق العلم بالألغام وفرشناه بالنابالم. المشهد الأول فى مستشفى قصر العينى، وتحديداً فى قسم جراحة التجميل، وفى أثناء السكشن عرض الأستاذ على الطلبة حالة لمريضة أُجريت لها عملية تحويل من ذكر إلى أنثى منذ أسبوع، أى أنه كان رجلاً منذ أسبوع فقط وتحوّل حالياً إلى امرأة. والمسألة لم تكن فى تاء التأنيث التى أضيفت إليه ولكن فى الخطوات والإجراءات التى أحاطت بهذه العملية. كان الجرّاح فخوراً، وكانت المريضة سعيدة، وكان الطلبة فى حالة اندهاش، ولكنها بالقطع لم تكن حالة إدانة، وقد عرفنا بعد ذلك حين استضافتها «أمانى ناشد» فى برنامج «كاميرا 9» أنها ابنة مستشار بمجلس الدولة. المشهد الثانى حدث هذا العام حين شاهدت صديقى جرّاح التجميل يجلس مكتئباً، وعندما سألته عن سرّ اكتئابه أخبرنى بأن المريض الذى لجأ إليه لكى يُجرى له عملية التحويل إلى أنثى منذ أكثر من عام قد انتحر بقطع عضوه التناسلى وظل ينزف حتى فارق الحياة، وذلك لأن صديقى الجرّاح لا يستطيع أن يغامر بمستقبله المهنى ويُجرى له العملية، لأنه إذا فعل ذلك سيعرّض نفسه للمساءلة وسيتم فصله من نقابة الأطباء وإغلاق عيادته، فالنقابة لا توافق بسهولة وترمى الكرة فى ملعب الشيوخ كالعادة، ولكى نقدّر ونفهم طبيعة المشكلة لا بد أن نفهم أولاً طبيعة هذا المرض الذى يسمَّى «الترانسكس». والترانسكس مرض من أمراض اضطرابات الهوية التى تصيب الرجال والسيدات على السواء، ولكن السائد والمقلق فى نفس الوقت هو التحوّل إلى أنثى التى هى عكس حالة ابنة هشام سليم، ويلخّص هذه الحالة قول المريض «أحس بأننى فى فخ.. أشعر بأن جسمى خطأ.. كل الناس تعاملنى على أننى رجل مع إنى حاسس إنى امرأة.. صحيح عندى قضيب وخصيتان وصوتى خشن وصدرى فيه شعر، إلا أننى لست رجلاً… طول عمرى حاسس بأنى مستريح مع مجتمع الستات وباحسدهم على إنهم ستات»… ويظل يقسم بأغلظ الأيمان أنه ليس رجلاً ويهدد الطبيب فى جملة حاسمة «لو ماعملتليش العملية هروح أعملها عند حد تانى.. أنا حبقى ست يعنى حبقى ست»! ويظل المريض مصمماً على إجراء عملية التحويل، وحين يرفض الجميع تحويله ينتهى به الأمر إلى أحد طريقين لا ثالث لهما؛ الطريق الأول هو التحوّل إلى العنف والبلطجة والشذوذ، أمّا الثانى فهو الانتحار بالتخلص من رمز ذكورته الذى يخنقه. والنوع الاجتماعى GENDER شىء والجنس SEX شىء آخر. الجندر مكانه الإحساس والمخ، أما الجنس فمكانه شهادة الميلاد والبطاقة الشخصية؛ الجندر رجل وامرأة، أمّا الجنس فهو ذكر وأنثى؛ الجندر سلوك وتصرفات ورضا وقبول بكون الإنسان رجلاً أو امرأة، أما الجنس فهو صفات تشريحية وأعضاء تناسلية وخلايا وأنسجة وهرمونات. وتحديد نوع الجنس يمرّ بأربع مراحل: 1. المرحلة الأولى: مرحلة الـGENETIC SEX وهى تتحدّد عند تخصيب البويضة، ما إذا كان الذى أخصبها حيوان منوى يحمل جين X أم Y، فإذا كان X فالمولود أنثى، وإذا كان Y فالمولود ذكر. 2. المرحلة الثانية: هى مرحلة الـGONADAL SEX التى تبدأ بعد الأسبوع السادس لأنه قبل هذا الأسبوع لا يحدث أى تمايز للأعضاء التناسلية التى تتحدد بعد ذلك إلى مبيضين أو خصيتين. 3. ونأتى بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة وهى المرحلة الظاهرية الـPHENOTYPIC SEX والتى تنقسم فيها الأعضاء التناسلية، وتتمايز وتظهر الأعضاء التناسلية الداخلية والخارجية تحت تأثير الهرمونات. فمثلاً فى الذكر يكون تأثير التستوستيرون المسبب لظهور الحويصلات المنوية والبروستاتا، إلخ. 4. ثم نصل إلى محور حديثنا وبؤرة قضيتنا التى نعرض لها وهى الهوية والتى تتحدد بمرحلة الجنس المخّى أو الـBRAIN SEX والذى تتحكم فيه عوامل هرمونية ونفسية، وأيضاً تدخل فيها عوامل التنشئة والتربية والتركيبة السيكولوجية لهذا الفرد والتى تحدد له فيما بعد هل هو رجل أم امرأة. هل نحن أمام حالة نفسية أم عضوية؟ هذه نقطة طبية غاية فى الأهمية لأننا فى معظم الأحيان نخلط ما بين «الترانسكس» و«الإنترسكس»، وهو مرض عضوى ينشأ عن عدم المقدرة على تحديد جنس المولود بعد ولادته وذلك لوجود عيوب خلقية فى أعضائه التناسلية الخارجية، فتتم تنشئته بصورة مغايرة لحقيقته العضوية، مما يؤدى إلى مشكلات صحية ونفسية واجتماعية فيما بعد، وهذا النوع يمكن تجنبه بسهولة عن طريق استخدام تحليل المورثات الجينية CHROMOSOMES بعد الولادة مباشرة. وبعد التفرقة ما بين مرض «الترانسكس» و«الإنترسكس» لا بد لنا من أن نفرّق ما بينه وبين الـTRANSVEST والخلط الحادث بين الاثنين ناتج عن محاولة لارتداء الملابس الأنثوية فى الاثنين، ولكن هناك فرقاً كبيراً بين الاثنين، فالأول يرتديها لتأكيد الهوية، أما الثانى فيرتديها لأنها الطريق الوحيدة لديه للإثارة الجنسية والوصول إلى الأورجازم. وبعد هذه التفرقة تفرض علامة استفهام أخرى نفسها وهى: هل لجوء أى رجل إلى جرّاح التجميل وطلب تحويله إلى امرأة، يُحتم موافقة الطبيب على الفور ويدفع به إلى غرفة العمليات وكأنها عملية زائدة دودية؟! الحقيقة والواقع يؤكدان عكس ذلك، وللأسف هذا ما لا تفهمه الأغلبية، فالجمعية النفسية الأمريكية قد وضعت شروطاً لإجراء هذه العمليات ولتشخيص هذه الحالة، وهذه الشروط هى: أولاً: لا بد أن يظل هذا الإحساس بعدم الارتياح والاقتناع بالهوية لمدة لا تقل عن سنتين. ثانياً: لا بد أن تمتد الرغبة فى تغيير الجنس لمدة لا تقل عن سنتين. ثالثاً: ألا يكون المريض واقعاً تحت تأثير مرض نفسى كالشيزوفرينيا أو عيب وراثى. عند توافر هذه الشروط، وعند التأكد من هذا القلق والاضطراب الذى يصدع الهوية، يجب على أسرة المريض اللجوء للعلاج النفسى لتأهيله نفسياً واجتماعياً قبل إجراء أية عملية. إذن الأمر ليس لهواً جراحياً أو دجلاً طبياً، القضية علمية بحتة، والمشكلة نفسية تحتاج إلى الفهم بدلاً من التجاهل، والتعاطف بدلاً من التعامى، فهذا حق لهذا البنى آدم الذى يريد أن يحسم هويته ويحاول أن يوازن ما بين مخه الذى يخبره بأنه أنثى وما بين جسده الذى يصدمه بأنه ذكر. الغريب والعجيب أننا كنا رواداً فى مجال هذه الجراحات، فأبو جراحة التجميل المصرى د. جمال البحيرى له عمليات تدرَّس باسمه فى مجال عمليات التحويل، والتى كان يجريها هو وتلامذته فى الستينات والسبعينات حتى إن الأوروبيين كانوا يلجأون إليه لإجراء هذه العملية قبل أن يهجر جراحة التجميل التى أصبحت فى نظر الكثيرين رجساً من عمل الشيطان وتغييراً فى خلقة الله، وكانت أكبر اللطمات التى وُجهت لهذه العملية الجراحية قد حدثت بعد قضية «سيد عبدالله» الطالب بكلية طب الأزهر الذى أصبح «سالى» بعد الجراحة التحويلية التى أُجريت له سنة 1986، والمدهش أن الضجة قد أثارها بعض الأطباء الذين تعلموا أن الطب مجرد مصطلحات لاتينية وليس سلوكيات إنسانية وأن المريض ما هو إلا بعض أعضاء متناثرة من كبد وطحال وفشة، وليس إنساناً متكاملاً يعامل كبنى آدم له علينا حق الفهم وعلينا أن نعامله كأطباء وليس كميكانيكية تصليح أجساد! والأكثر إدهاشاً أن الذى أنقذ «سالى» هو وكيل نيابة وليس طبيباً وهو أيسر أحمد فؤاد، الذى تعامل مع الأمر بكل تفتُّح وموضوعية وعقلانية، ولكن كل هذا لم يمنع النقابة فى عصرها الإخوانى القديم من التنكيل بالدكتور عشم الله الذى أجرى له الجراحة. إن أهمية الموضوع ليست فى تفاصيل المرض أو خطوات العملية، وخطورة المسألة ليست فى دور الهرمونات أو الجينات، ولكن الأهمية والخطورة تنبع من أننا نحرم إنساناً من أبسط حقوقه، وهى أن يكون نفسه.