ما زال الروائى الكبير صنع الله إبراهيم قادراً على إدهاشنا وإمتاعنا وتحريك ذاكرتنا التاريخية وفتح شهية ذائقتنا الروائية. «١٩٧٠» ليست رواية جديدة لصنع الله إبراهيم فقط على مستوى التسلسل التاريخى، ولكنها رواية جديدة على مستوى الشكل والمضمون والتناول، الرواية يوميات آخر عام فى حياة الرئيس جمال عبدالناصر، الذكاء والصعوبة فى أن تلك اليوميات جزء منها على لسان ناصر نفسه، وكأن اللاوعى يطفو على صفحات الرواية فى لحظات تعرى نفسى خلال سنة مفصلية ليست فى تاريخ عبدالناصر فقط، ولكنها فى تاريخ مصر، الجزء الثانى وهو الأخطر والأمتع بالنسبة لى شخصياً هو قصاصات الجرائد التى التقطتها عين الروائى الذكية اللماحة، عناوين هى محطات دالة وضربات فرشاة ترسم بورتريه مصر، وتشير إلى أدق التفاصيل المختفية خلف الملامح الساكنة، من الندبات إلى التجاعيد إلى هالات السواد وشيب الشعر والروح، الانتقال السلس المنضبط كخطوات راقصة الباليه بين الاستربتيز النفسى والكرنفال الصحفى، حافظ على إيقاع تلك الرواية صغيرة الحجم عظيمة القيمة، لم يمجد صنع الله إبراهيم الزعيم فى تلك الرواية، وأظنه سيخسر الكثير من أصدقائه الناصريين الذين حتماً سيعاتبونه على عبارات سيعدونها قاسية فى حقه، برغم أنه أشاد به وبمواقفه فى عبارات أخرى، خاصة عندما وصفه بالعملاق وسط الأقزام، وبالطبع سيكون الاتهام الجاهز هو أنه كان ينظر من خلال نظارته الماركسية التى ما زالت تحمل جراح المعتقل الذى دخله فى عهده، وأظن أن هذا الاتهام مجافٍ للحقيقة، سيعاتبونه على أنه فى نهاية الرواية يقول لناصر «خذلت نفسك وخذلتنا»، وعندما وصف مفهوم ناصر للديمقراطية بأنه مفهوم بائس، وعندما قال فى ص ٤٦ عن حفلات التعذيب فى معتقلات الشيوعيين «لم تكن ضد فكرة التعذيب الخفيف، وتعتبره نوعاً من الرياضة العسكرية العنيفة»، وعندما تحدث عن نشوة ناصر الخاصة أثناء التطلع على أسرار الفنانات ص ٥٣، وعن فشله فى تكوين التنظيم السياسى، وعن خطيئة اختيار نائبه وعقدة زواج الأب بعد وفاة الأم، وعن انزلاقه إلى فخ اصطياد الديك الرومى ٦٧ التى وصفها صنع الله بوصف صعب وقاسٍ عندما قال ص ١٢٨ «وانزلقت إليه ببلاهة». أعرف أن اللغة الروائية والخيال القصصى لهما معاييرهما الخاصة ولا يتم التعامل معهما كرأى سياسى، لكن توقعى ومعرفتى باحتقانات التلقى المصرى للأعمال الفنية واستخدام المسطرة السياسية لقراءة الفن دائماً فى مصر ستنعكس بالضرورة على تلك الرواية، أما جدارية قصاقيص الصحف وعناوين أخبار ١٩٧٠، فهذا هو الكنز الحقيقى فى الرواية، فمن رصد عناوين مثل أغنية «الطشت قال لى»، وتهديدات الطالبات المرتديات المينى جيب وشطب كتب الماركسية وهجرة الأطباء للاحتفال بمئوية لينين، لانضمام شيخ الأزهر للتنظيم الطليعى، لتقديم جيهان السادات للفطير المشلتت فى احتفال جمعية تلا، لمنحة التفرغ لنجيب سرور، لخناقة زيزى مصطفى مع أمن المسرح العائم لاعتراضهم على فستانها القصير، وانتهاء بأسماء الشهداء وأخبار معارك الأردن وأحداث العراق وليبيا، لقطات لا تستطيع إلا عين روائى متمكن ومثقف فى قامة صنع الله إبراهيم التقاطها، رادار روائى دقيق وجبرتى قصصى من طراز متفرد، قمة الذكاء فى تلك الرواية أنه لم يرصد «ناصر» فى عام الرحيل، ولكنه مر على مرحلة الطفولة، وعلى علاقة الصداقة المركبة بينه وبين «عامر»، ثم أحداث الثورة والوحدة فى فوتومونتاج روائى سريع، لكنه عميق الرؤية والنفاذ. «١٩٧٠»، رواية لن تمر عليك مرور الكرام، وستثير حالة من الجدل على مستوى اختيار التكنيك، وأيضاً اختيار زاوية التناول، خاصة أنها عن زعيم لم يتم تناوله صراحة وبهذا الشكل الإنسانى من قبل.