وأنا أرى الحاضرين فى برلين يناقشون موضوع ليبيا التى صارت مستباحة بميليشيات الفاشية الدينية، أتخيل بين الجالسين المفكر الليبى العظيم الراحل الصادق النيهوم، وأكاد أسمعه وهو يخاطب شعب ليبيا قائلاً: «لو كنتم قد أنصتم إلى كلماتى وقرأتم ما كتبته ونبهت إليه ما كنتم قد وصلتم إلى تلك الهاوية»، ربع قرن على رحيلك يا أيها الصادق الذى أنكرك مجتمع أدمن الكذب، حذرت من سيطرة الإسلاميين على مقدرات ليبيا، وشخصت الداء، تساءلت مَن الذى سرق الجامع فى كتابك الإسلام فى الأسر، لكن من يقرأ ومن يبحث ومن يسمع؟!، أعيد على الليبيين ما كتبه الصادق النيهوم لعلهم يتفكرون، يقول الصادق: الشعوب التى تفشل فى تشخيص أمراضها بشجاعة تموت نتيجة تناول الدواء الخطأ. إننا فى ليبيا لا نملك مشكلة اسمها الجهل، بل مشكلة أكثر قبحاً وأكثر تعقيداً اسمها صرامة الموقف العقلى السائد. ليبيا دولة من القش فوق بحيرة من البترول.. ما أسرع أن تأكلها النيران. وخلال الليل كان بوسعى أن أمدّ يدى عبر النافذة وألمس وجه الحزن الذى تقطر به السّماوات فى ليبيا بلا انقطاع. فالحرب لا تستمر خمس سنوات كاملة دون أن تصبح مملة، الحرب مثل أى مسرحية أخرى، لا تستطيع أن تكون مثيرة إلى الأبد. يا إلهى إن بنغازى كلها تراب، المطار والطرق المؤدية إلى المطار وعيون الأطفال الموتى، بنغازى كلها تراب.. تراب. الجهل مثل المعرفة، قابل للزيادة بلا حدود. لا نملك شيئاً نلتقى عنده، فكل واحد منا يمشى فى اتجاه أنفه. وكل خطوة فى الاتجاه الخطأ ندفع ثمنها مرتين. الجهل -مثل جميع الأمراض العقلية- يحقق رابطة متينة بين الفئات المصابة به بغض النظر عن اختلافاتها الاجتماعية ويرصها جميعاً صفاً واحداً ضد الأعداء وراء الجدار، فى حالة استعداد دائمة للبدء فى القتال. إذا كانت أحلامنا جميلة ومشروعة فإن أول خطوة لتحقيقها هى أن نستيقظ. افتحوا نوافذكم على العالم، وواجهوا أنفسكم، ودعوا الأشياء تنال قيمتها الحقيقية بدون إقحام لعوامل الغضب أو الرضا. ثم جاء البترول وأنقذنا من الموت جوعاً بين جيراننا.. ولكنه لم ينقذنا من مشكلاتنا القديمة. فالشعوب لا تكـبر بالنقـود وحدها! ﻻ ﺗﺨﺎﻓﻮا ﻋﻠﻰ ﺳﻼﻣﺔ دﻳﻨﻜﻢ ﻣﻦ ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﺣﺠﺮﻳﺔ ﺗﺰﻳﻨﻮن ﺑﻬﺎ ﺑﻴﻮﺗﻜﻢ، ﺑﻞ ﺧﺎﻓﻮا ﻣﻦ اﻷﺻﻨﺎم اﻟﺒﺸﺮﻳﺔ التي ﺗﺤﺘﻞ رؤوﺳﻜﻢ وﺗﺴﺠﺪ ﻟﻬﺎ ﻋﻘﻮﻟﻜﻢ. الجهل مخدر دائم الأثر، إنه لا ينتهى مثل باقى المخدرات عند حد تدمير صاحبه بل يمد أذرعته الشنيعة لكى يدمر كل شىء حوله فى جميع الجهات. أن نخدع أنفسنا ثم ندعو الخدعة عادة ثم ننسبها إلى الله ثم نعاقب من يخالفها وندعوه كافراً بالله.. أعنى هذه مغالطة حقاً ليس ضد الإنسان فقط بل ضد الله أيضاً، ولكن تبدو فضيلة عادية فى مخزننا الإنسانى العامر بالفضائل.