عندما يكتب أستاذ الفلسفة وعلم الجمال خواطره، فإنها لا بد مستعصية على الحبس فى شكل أو السجن فى إطار، هذا ما حدث عند قراءتى لكتاب «الخاطرات» للدكتور سعيد توفيق، فهو يقف على شاطئ السيرة الذاتية وعلى تخوم الفلسفة، مراوغة الشكل المحببة جزء من جمال المضمون وسحره، وسعيد توفيق فى هذا الكتاب تمازجت وتداخلت وتفاعلت الحدود بين هذا وذاك، فصرنا أمام تشكيل فنى جديد بالحروف، ودائماً أفرح بأى كتاب لمن يمارسون التفلسف وتدريس حب الحكمة، وأفرح أكثر إذا كان الكتاب للقارئ العادى وليس للنخبة أو طلبة الفلسفة، فهو يلتقط الصورة من زاوية مختلفة، ويجعل المألوف مدهشاً، والعادى صادماً، هذا ما فعلته فينا من قبل مقالات د. زكى نجيب محمود ود. فؤاد زكريا وصلاح قنصوه وغيرهم ممن كانوا يمارسون الكتابة فى الصحف والمجلات، وها هو د. سعيد توفيق يكمل المسيرة، الكتاب برغم صفحاته التى تجاوزت الثلاثمائة وخمسين صفحة، كتاب سهل الهضم، جذاب، يمسك بتلابيبك منذ أول سطر، يتجول بك ما بين معانى الطفولة والحلم والإبداع والفن والجمال والزمان والمكان والصداقة.. إلخ، ويطرح عليك أسئلة القلق الوجودى، مثل معانى الموت والحياة، هناك مناطق رومانتيكية غاية فى الرقة هزتنى بشدة مثل حديث مؤلف الكتاب عن علاقته بكلبه ووصف لحظة موته، فى وسط ثقافة كارهة ومحتقرة للكلاب وتتخذ أحياناً ستاراً دينياً لذلك، يصبح مثل هذا الحديث فريضة لا رفاهية، ويصير الاحتفاء بتلك النوعية من الكتابة طقساً مبهجاً، فلا يمكن أن أتغافل وأهمل لحن الرقة والنعومة والجمال فى حديثه عن رحيل كلبه عندما قال «إنه يموت فى نبل جليل، فلا يتألم من موته بقدر ما يتألم من فراق صاحبه»، «كان العواء فريداً غريباً لم أسمع مثله من قبل فيه من الحزن العميق ما لايعرف البشر التعبير عنه بأصواتهم، وكأنه كان ينبهنى إلى لحظة الفراق من خلال التعبير عن الحزن العميق المكثف فى صوته، قررت أن أدفنه بحديقة بيتى كى يكون قريباً منى»، تعمدت أن أبدأ بتلك الخاطرة لأعكس المدى الذى يحلق فيه الكاتب بعيداً عن مساحات الكتابة المكررة المستهلكة، هناك فى البداية أحلام الطفولة ودهشة الطفل التى تولد أول الأسئلة الفلسفية، هناك صداقته مع الليل وكيف أن الليل هو صديق الفيلسوف لا النهار، هناك نثر كالشعر عن الرائحة وكيف تربطه بالمكان والزمان، حتى يصل إلى خلاصة يقول فيها «إن الوطن الذى لا نشم روائحه هو وطن بلا روح»، وبصفته أستاذاً لعلم الجمال فسيجد القارئ الفصل الذى يتحدث فيه عن الفن هو من أمتع وأقوى الفصول، لكنه يصدمنا فى النهاية بمصير المبدع الحقيقى البائس فى بلادنا، يحتل المكان مساحة كبيرة فى «خاطرات» سعيد توفيق، لأن تجربته الشخصية ثرية بالأماكن المختلفة ذات البصمات التى تترك وشماً فى الروح، فمن الريف إلى القاهرة إلى رحلات الصيد على شواطئ مصر الساحرة إلى صحراء النفط، ثم العودة إلى مكان آخر فى القاهرة لكنه مختلف عن ساحات شبابه، ومن العام إلى الخاص، من المدينة إلى البيت، حيث معنى المأوى والملاذ والأحلام والذكريات، ومقارنة ومقاربة فلسفية ما بين رحم الأم ومهد الطفل وكوخ الإنسان البدائى، هذا الخليط الذى نختزنه فى اللاوعى ويشكل الطمأنينة والأمان، ومن أمتع الخاطرات فى نهاية الكتاب ما كتبه عن الصديق المشترك الشاعر والفنان المتفرد الذى لم يحصل على حقه فى الحفاوة، د. حسن طلب، الكتاب يستعصى على التلخيص والاختزال، وأترككم لقراءته والاستمتاع به فى حضرة مثقف كبير وجميل هو د. سعيد توفيق، له كل الشكر على تلك المتعة الروحية والثقافية.