فى ذكرى بليغ حمدى دائماً تصدمنا الأسئلة وعلى رأسها سؤال مؤرق، لماذا تعاملنا مع بليغ حمدى بهذه القسوة وبتلك اللامبالاة؟ الخلاصة أننا شعوب لا تستطيع استيعاب جنون الفنان الحقيقى وجموحه، نعتبره كائناً مزعجاً إذا خرج عن السياق، وكائناً جميلاً حبوباً إذا صار نسخة رديئة منا، لكن قراءة رحلة بليغ وتجربته بالقدر الذى تسمح به تلك المساحة تمنحنا بعض الرسائل، منها: - توهج الإبداع ليس له سن وغالباً قمة التوهج تكون فى الشباب، وإذا سمحت لهذا التوهج والجنون أن يستمر فى اشتعاله، سيمنحك أجمل مخزون إبداعاته، شاب فى العشرينات من عمره، هجر كلية الحقوق باحثاً عن حلمه الموسيقى، يجلس بمنتهى الثقة ليعزف لحنه أمام كوكب الشرق بناءً على نصيحة الفنان محمد فوزى، لم تستطع أذن أم كلثوم أن تقاوم أو تكابر، لم تقل هذا مجرد «عيل»، جلست بجانبه على الأرض وتسلطنت، مثلث الحكاية فيه أيضاً ضلعان مهمان، الضلع الأول أم كلثوم التى تطارد الفن أينما كان ومعيارها الوحيد هو الموهبة، والضلع الثانى محمد فوزى الذى توارى خلف الكاميرا ليتيح لـ«بليغ» أن يتألق ويظهر. - الفنان الحقيقى لا يبحث فى المضمون والجاهز، الفنان الجاد المبدع بجد هو الذى يتعب ويجتهد ولا يرضى بالسائد، كان هناك عبدالحليم الجاهز وأم كلثوم المتاحة، لكنه بحث ونقب فى التربة المصرية والعربية، فاكتشف عفاف راضى وعلى الحجار وسميرة سعيد وميادة والعشرات غيرهم. - الفنان لا يخجل من قصة عشقه وحكاية حبه، بليغ كان دوماً فى حالة حب مزمن، كان حبه وقود إبداعه وسبب عذابه فى الوقت نفسه، كان لا يضع أقنعة فى حبه ولا يعبأ بالقيل والقال فى قصص عشقه، يحب وفقط، مهما قالت قبيلة النميمة. - الفنان لا يكره وطنه، برغم أنه عاش فى منفى، وتخلى عنه الكثيرون، وعاش فترة كبيرة فى نهاية حياته مطارداً، وهو صاحب «ع الربابة» و«عدى النهار»، إلا أنه عندما عاد أهدانا أيقونة الشجن الوطنى «بوابة الحلوانى»، وغنى وكتب شوقاً لمصر وهو نازف الجرح «مهما بعدت عنك عمرى ما حانسى إنك أمى وإنى ابنك وإنى حتة منك». - الفنان يخاصم السائد ويخرج ويشرد عن القطيع ويطير خارج السرب، الكل يهاجم أحمد عدوية بنفس الجمل والاتهامات، يأتى بليغ ليلحن لـ«عدوية»، صم أذنيه عن الهجوم الكاسح، وسبح ضد التيار، لأنه مؤمن بأن عدوية صوت جميل وخامة جيدة، ونجح عدوية واكتسح بألحان بليغ. - برغم البوهيمية والتمرد اللذين وضعاه دائماً فى إطار وتصنيف غير حقيقى، مما جعل المتدينين يتوجسون منه، إلا أنه لحن أجمل ما غنى النقشبندى، «مولاى إنى ببابك»، يعنى الذى لحن لعدوية أجمل موال، لحن للنقشبندى أجمل إنشاد. - الفنان لا يلعب دائماً فى المضمون، فالأغانى هى المكسب المضمون، وتلحينها يحقق الثروة، لكن بليغ اختار وحارب وخسر أموالاً نتيجة إصراره على اقتحام حقول ألغام غير مضمونة مثل مجال الأوبريتات المجهدة التى من الممكن استغلال وقتها فى تلحين عشرات الأغنيات مضمونة المكسب والنجاح، لكنه الفنان المهموم بفنه، الذى يسكنه جنون الفن وسحره.