احتفت الفضائيات المصرية على شاشاتها بالروائى نجيب محفوظ وبالفنان فؤاد المهندس، كانت سعادتى غامرة وأنا أرى صورة كل منهما تتكرر على أكثر من شاشة، يصاحبها كلام أو اقتباس من كتاب أو فيلم، كانت له عندى دلالة، احتفاء بالتنوير يسعد الوجدان ويوقظ العقل، لذلك يجب أن أوجه الشكر لأصحاب فكرة الاحتفاء بتلك الرموز التنويرية، من الممكن أن يعترض شخص قائلاً: «نقبل أن تصف نجيب محفوظ بالتنويرى، لكن هل فؤاد المهندس قد أسهم فى التنوير؟!»، الإجابة بالطبع وبالتأكيد نعم، فؤاد المهندس هو تنويرى بامتياز، وهو خير تمثيل لهذا الجيل الذى تشكل فى جامعات مصر من خلال منافسات المسرح فى الخمسينات والستينات، أنا متفهم جيداً لاستنكار بعض القراء لتصنيف كوميديان كمثقف تنويرى، وهذا نابع من نظرتنا الدونية للكوميديا، التى أعتبرها شخصياً من أرقى وأصعب فنون الكتابة، بالطبع عندما تكون كوميديا وليست ردحاً أو تهريجاً، لأن الكوميديا فن يعتمد على العقل ويخاطبه، فلكى تضحك على موقف كوميدى فأنت تجرى نشاطاً عقلياً مركباً ولا تستقبل بوجدان فقط يستثار من مجرد موقف ميلودرامى مؤثر، فعلى سبيل المثال، فى مسرحية حواء الساعة ١٢ أنت تتفق مع مَن هم على خشبة المسرح أنك ستشطب شويكار من المشهد لأنها شبح ولكنك تضحك على المفارقة التى يخلقها هذا الموقف، أنت تراها كشخصية بيولوجية ولكنك لا تراها كشخصية مسرحية، ومن هنا تنبع الكوميديا. أما كيف تغير الكوميديا الأفكار الراسخة، فهذا يحتاج إلى مجلدات، وأنا شخصياً أرى أن الكوميديا من أهم الأسلحة الإبداعية الفعالة فى فضح الإرهاب، أما فؤاد المهندس فهو كما ذكرت خير تمثيل لجيل حمل شعلة التنوير من الجيل السابق الذى كان فى الجامعة المصرية ولكنه فكر فى تغيير مسار تلك الشعلة بطريقة إبداعية، هو ابن الموسوعى الرصين صاحب اللغة العربية السليمة زكى المهندس، تشرب منه تلك الثقافة الأكاديمية، لكنه أدخل تلك العجينة الثقافية فى فرن الفن، فى زمن كان فيه الممثل «مشخصاتى» لا تقبل شهادته، اقتحم المهندس مجال التمثيل مضحياً بالوظيفة الثابتة، وتحدى تلك السمعة السيئة بل واختار الكوميديا التى ينظر إليها الناس باستخفاف، حارب منذ فرقة «ساعة لقلبك» وحتى «فرقة المتحدين»، حتى يرسخ مفهوم الاحترام لفن الكوميديا، سواء باختياراته الفنية أو بانضباطه المسرحى الذى عكسه على فرقته، حتى عندما اختار تقديم برنامج فى الإذاعة قدم أهم برنامج نقدى لاذع لأحوالنا الاجتماعية والسياسية وهو «كلمتين وبس»، وعندما اختار برامج التليفزيون قدم فوازير لأهم طائفة مهملة تليفزيونياً وهى الأطفال. على المستوى الشخصى كان رمز الشياكة والأناقة مثلما كان أنيقاً فى اختياراته الفنية، يكفى أن تشاهد فيلم «أرض النفاق» ومسرحية «سيدتى الجميلة» ومسلسل «عيون»، لكى تتعرف على معنى الشياكة الفنية بكامل ملامحها، ليس التنوير أن تتحدث فقط عن التراث الدينى، التنوير معنى أشمل وأعم وأرحب، الارتقاء بالوجدان تنوير، تحفيز العقل على السؤال تنوير، صناعة البهجة تنوير، نقل نبض الحياة بإنسانية وبدون تجهم هو منتهى التنوير، كم نحتاج إليك يا أستاذ، يا عمو فؤاد، كم نحتاج إلى ضحكتك المجلجلة فى زمن يبخل علينا حتى بمجرد الابتسامة.