شاهدت عرض «الملك لير» الأخير وكان الفنان الراحل فاروق الفيشاوى من أروع بصمات هذا العمل الفنية والإبداعية. كنت أعلم تفاصيل حالته الصحية المعقدة التى لا تسمح لأى مريض إلا بالحركة المحدودة والجهد القليل جداً الذى بالكاد يكفى لأداء المهام الأساسية للحياة من طعام وشراب، كنت أعرف أن طاقة كبده المكدود محدودة وضعيفة وفى غاية الوهن، ولكنى رأيت أمامى على المسرح غول تمثيل فى دور من أصعب الأدوار فى المآسى الشيكسبيرية، دور الأعمى الذى كان فيه صعود وهبوط، ذروة وسكون، بهجة وحزن، اقتحام وصدمة، استقبال حياة وفقد أبناء، بصر وبصيرة حادة ثم عمى وبكاء وحيرة وتوهان، كان يصول ويجول على خشبة المسرح كالمارد، وكان هناك مشهد فى الصالة بين أفراد الجمهور فى نهاية المسرحية يؤديه وهو معصوب العينين، وبالرغم من أن هناك عيباً أساسياً حدث فى يوم العرض وعلى خشبة المسرح، وهو رداءة الصوت وتآكل الكلام والعبارات فى أفواه بعض الممثلين، فإن الفيشاوى كانت لغته العربية مضبوطة ونطقه واضحاً ومخارج الألفاظ مضبوطة ومسموعة حتى لمن يجلس فى نهاية الصالة. اندهشت، ما هى القوة الغامضة التى منحت هذا الفنان تلك القدرة العجيبة؟!، ما هو السحر الذى تسلل إلى أعصاب وجسد الفيشاوى لينسى تماماً آلامه المبرحة وصرخاته المكتومة وتأوهاته المخفية؟! إنه الفن، تلك الكيمياء الإبداعية الساحرة التى تمنح الفنان قدرات السوبرمان وتمنحه إكسير الخلود حتى ولو رحل جسداً وخذله الطب، إنها حقنة الفن وكبسولة الإبداع وقرص سيد الفنون المسرح، تصفيق الجمهور يمنحك القوة، آهات الإعجاب تغتال تأوهات الوجع، نفس ما كان يحدث لعبدالحليم حافظ الذى كان ينزف بعد انفجار دوالى المرىء نافورة دم تغرق السرير والوسائد، ثم يقف على خشبة المسرح ليغنى ويسعد جماهيره، مجروح الكبد المجهد، مشدود الوتر الحنجرى المسعد، جالب الفرح والسعادة إلى مستمعيه وعشاقه، كان يغنى «دقوا الشماسى» وندبة جرحه تحتل نصف بطنه المفتوح بالمشارط والمقتحم بالخراطيم والأنابيب و«الدرانق»! لمست هذه التجربة أيضاً عندما حضرت فى الأقصر حفلاً لمحمد منير فى أحد مهرجانات السينما، وكان الحفل على وشك الإلغاء لأن آلام المغص الكلوى قد هاجمت «الكنج»، كان عشرات الآلاف ينتظرونه منذ خمس ساعات هاتفين باسمه، فى وصلة فرح وانتشاء، ولأننى أعرف قسوة وشراسة هذا النوع من المغص، فقد قلت لمن هم بجانبى من الفنانين، مستحيل محمد منير حييجى الحفل بعد المغص الكلوى والحقن والألم، لكنى خسرت الرهان، لأن الفن أقوى من أى رهان، ومن أى ألم، الفن أقوى من كل المعوقات والتخوفات والأحزان، حضر منير وغنى كما لم يغنّ من قبل، وأسعدنا وهو يتألم، وغطى صوت تصفيق المعجبين على صوت فحيح المرض، إنه سر الفن وسحره. سنفتقد الفيشاوى كثيراً كفنان حقيقى وعظيم، لكن الفنان الذى يلج من باب هذا السحر والألق الفنى والذى تندهه نداهة الفن، يعرف وهو يقتحم هذا المجال أنه مقدم على مجهول صعب، لكن مقابل الخلود والبقاء فى ذاكرة الناس والجمهور كنز، مقابل لا يقدر بمال أو ثروة، كلنا نبحث عن علاجات لتخفيف آلامنا، إلا الفنان الذى يأخذ قرص الدواء لمراوغة المرض اللعين، وهو متأكد تمام التأكد أن هناك دواء آخر سيخلده ويعالج آلامه، إنه الفن.