سمعنا وشاهدنا وربما عانينا شخصياً من أنواع مختلفة من الفوبيا أو الخوف المرضى مثل الخوف من الأماكن العالية أو المغلقة أو فوبيا الحشرات أو فوبيا الأماكن المزدحمة... إلخ، ومن أغرب أنواع الفوبيا المذكورة فى كتب الطب النفسى هى «الديسايدوفوبيا» أو «الخوف من اتخاذ القرار»، وفيها يبتعد المريض عن أى موقف ويتجنب أى فرصة تدعوه لاتخاذ قرار، ويصبح اتخاذ القرار عائقاً فى حياته، يصيبه بالقلق والتوتر الشديد. وأنا أرى أن هذا المرض ليس مرضاً فردياً بل مرض جماعى من الممكن أن يصيب الشعوب ويعوقها مهما كانت لديها من قوى بشرية، أصبحت أراها بشكل متكرر شبه يومى فى كل الدرجات وعلى كل المستويات، هروب دائم ولعبة استغماية مزمنة مع مسئولية اتخاذ القرار، تزويغ فى منتهى الفن والعبقرية من لحظة القرار، يذكرنى بما كتبه الرائع توفيق الحكيم فى «يوميات نائب فى الأرياف»، حين كانت تزحزح الجثة فى الترعة من حدود القرية إلى القرية المجاورة، ليتولى التحقيق فى الجريمة موظف آخر، ليتحرر من وقعت الجريمة فى محيطه من التصدى لأى قرار! المدير عندما تقدم إليه ورقة يظل ينظر فيها ساعة من أعلى إلى أسفل، يميناً ويساراً، ثم يلقى بها إليك وكأن عقرباً لسعه، متسائلاً «أين إمضاء فلان أو علان؟»، ويكون فلان قد تُوفى منذ ربع قرن أو علان هذا شبح ينتمى إلى عالم هارى بوتر! شاب مرتعش ومرعوب، يتساءل ولا توجد فى دماغه اختيارات منتظراً قرار الأب، «ما الكلية التى ألتحق بها؟»، «ما التخصص»؟، «أنا عايز إيه»؟!، حتى فى علاقات الحب، كلها علاقات مجهضة مريضة بسبب الديسايدوفوبيا، المحب والمحبوبة فى حيرة حتى ولو توافرت الظروف المادية، هل نتزوج؟، هل نحن يحب كل منا الآخر؟، هل هناك مشاعر متبادلة؟، أحياناً يدفعهم الضغط الاجتماعى للارتباط، وغالباً يتم الطلاق والانفصال. رهاب اتخاذ القرار، تلذذ اليد المرتعشة، هستيريا الهروب من المواجهة، أدخل شرنقتى وليحترق العالم، أنا فى أمان وليأخذهم ويجرفهم الطوفان، نظل فى حالة فرار دائم كالمطارد فى فيلم الهارب، نعانى من فوبيا القرار بداية من اختيار اسم المولود إلى مكان القبر!، الزوج يرمى بالقرار فى ملعب الزوجة تجنباً لوجع الدماغ وطلباً لراحة الكسل اللذيذة المخدرة، والزوجة تلقى بالقرار فى سلة الزوج نتيجة انخفاض هرمون الحسم فى غدة الاستقلالية، الموظف الأصغر يشيل الشيلة للأكبر والأكبر يغلفها للأكبر، حتى تجتمع كل الملفات فى مكتب فى الدور الأخير والباب العالى، مطلوب منه أن يتخذ كل القرارات، لأن الكل يعانى من الديسايدوفوبيا. متى يمتلك كل منا جسارة القرار حتى على المستوى الشخصى؟، متى نتخلص من هذا الكساح وتلك القيود وهذه النظرة المرعوبة من إفلات ذيل جلباب الأم من أسر قبضتنا؟، متى نمتلك فن وأسلوب القرار؟، متى نتخلص من «باركنسونزم» التوقيع على القرارات المهمة المصيرية ونعالج من شلل القرار الرعاش؟، متى نتخلص من حسابات ما بعد القرار من الزعل والقمص والخصام والهجر والغضب والقيل والقال والتجريس... إلخ، متى نتوقف عن الهروب من أحلامنا ومن تبعات قراراتنا؟!