فى الليلة الظلماء يُفتقد البدر، وعندما تضيع البوصلة ويتوه الدليل يصعب الطريق ويطول، أحس الآن بافتقاد الأحباء، وأشعر بأننى أحتاج إلى دفء أصحاب العقل وضمة من رحلوا عن دنيانا قبل رؤية نور الثورة، وحضن من كانوا يحاربون خفافيش الظلام الذين خطفوا الثورة وأمموها لصالحهم وأقصوا رموزها ونفوا صناعها واغتالوا أحلامها.

أفتقد أحمد بهاء الدين الذى كان أول من حذر من الانفتاح السداح مداح، ودعا بقوة وإصرار فى عموده الساحر بالأهرام الذى كان صوت البسطاء ومنبر العقل المصرى إلى تجديد الخطاب الدينى وتحديث الفقه الإسلامى وتنوير العقل المصرى واللحاق بركب الحضارة والحوار بلغة العصر.

أفتقد د. فؤاد زكريا، فيلسوف العقل وموسيقار الفلسفة، بمنطقه الصارم الذى لا يعرف التنازل ولا الحلول الوسط، برؤيته البانورامية الشاملة، وحسه الفنى المرهف، وتفنيده المفحم المقنع، كان أول من نبه إلى خطر الدولة الدينية وحلّل خطاب الإسلام السياسى وشرح تياراته بمبضع الفيلسوف الذى يضع علامات الاستفهام ويحفز العقل النقدى على التساؤل وعدم الإذعان.

أفتقد د. فرج فودة، شهيد الرأى والفكر، الذى اغتالته قوى التطرف التى اكتسحت الساحة الآن مراهنة على ضعف ذاكرة المصريين، باشتباكه الجرىء مع هذه التيارات على أرض الواقع، ونزاله الفكرى مع أقطابهم وهو يوقن بأن نهايته هى الاغتيال والتصفية لأن صاحب الحجة الضعيفة دائماً يحتمى بالإقصاء والتكفير والقتل، لأنه لو كان يمتلك الحجة العقلية ما كان الكلاشينكوف، وما كانت لغة الرصاص والدم.

أفتقد أسامة أنور عكاشة، بفنه الراقى الذى صوّر مصر بجهاز الأشعة المقطعية الدرامى فكشف الأحشاء والأعصاب، بقلمه المشاغب المحارب الذى جلب له الصداع والسباب والتطاول، كان قوياً وحاسماً فى رفض كل مظاهر التسلط باسم الدين، والرقابة باسم الحفاظ على سمعة الوطن، كفّروه وحاربوه، ولكنه ظل ثابتاً ولم يغادر ساحة الكتابة الصحفية المتمردة بالرغم من أن الدراما كانت تتوجه ملكاً فى عرين منيع، إلا أنه فضل أن يحارب بقلمه زلزالاً كان يحس بوقعه المدمر قبل أن ترصده أجهزة ريختر بسنوات، لكنه لم يهرب كفئران السفينة.

أفتقد د. محمد السيد سعيد الذى انتقد مبارك فى عنفوان سلطته ودفع الثمن غالياً، أفتقد رهافة حسه وصوته الهادئ الواثق وحواره الذى يصيب الهدف دون جرح أو تطاول أو بهلوانية، افترسه سرطان الجلد بعد أن افترسه سرطان البطش، افترسه قبل أن يرى حلمه متجسداً فى ميدان التحرير، أفتقد رهانه على منظمات المجتمع المدنى وفقدانه الثقة فى أى تغيير جذرى عن طريق روتين الحكومة، أفتقد رنة صوته الرقيقة فى زحمة الثرثرة والحناجر الهادرة المنافقة الكاذبة.

أفتقد د. أحمد عبدالله رزة، خطيب شباب السبعينيات، جيل الأزمة، من حفر فى الصخر منذ أن كان طالباً متفوقاً فى كلية السياسة والاقتصاد تحاربه أجهزة أمن الدولة وتتوعده بقطع رجله من الكلية إلى أن حصل على الدكتوراه من بلاد الضباب ليعود أستاذاً لخريجى الكلية فى المعهد الدبلوماسى!، أفتقد بلاغته وخطابته التى تنفذ إلى العقل والقلب، أفتقد روحه الشابة وفهمه لآليات البحث العلمى فى قضايا السياسة والاجتماع من دراسة حركة الطلبة إلى دراسة أطفال المدابغ!

أفتقد د. أحمد مستجير، بإيمانه بأن العلم هو طوق النجاة الوحيد، بروح الشاعر الذى تختلط دموعه حين يرى هزال طفل جائع بنظرة الإصرار على البحث عن حل له عبر الهندسة الوراثية، أفتقد روحه المرحة التى تنزع عن العلم صفة التجهم.

أفتقدكم جميعاً... وحشتونا.