صرح فضيلة الإمام الأكبر الجليل شيخ الأزهر فى برنامجه، أمس الأول، بأن ضرب الزوجة مشروط بعدم تكسير العظام وهو لتأديب الزوجة الناشز. هل يعنى ذلك ببساطة، اضرب زوجتك بفن وحرفنة كما يدربون الكومبارسات فى خناقات الأفلام حتى لا تأخذ زوجتك علاجاً أكثر من ٢١ يوماً؟! وأضاف الإمام: «يعنى اضربها بمسواك أو فرشاة أسنان»، وأنا العبد الفقير إلى الله أقول فى وسط خرس مجتمعى مريب وأمام صمت المجلس القومى للمرأة على هذا الرأى برغم تعليقاته على أشياء وتصريحات أقل تأثيراً على وضع المرأة الأسرى، أقولها وبملء الفم وبمنتهى الاحترام لشخص ومكانة الإمام، إن الضرب إهانة للمرأة سواء بالكرباج السودانى أو بفرشاة أسنانى! إهانة كسر الروح أخطر من كسر العظم، فى زماننا هذا لم تعد تلك الآراء مقبولة حتى للأطفال، وستفتح باب عنف تجاه المرأة نحاول جاهدين القضاء على جذوره، ولو ضرب ابنى زوجته أو حتى أهانها بلفظ جارح، سأقف فى صفها وأدينه لأنه بهذا الضرب أو السب خرج عن قيم التحضر الحديثة التى لا بد أن نربى أبناءنا عليها، وللأسف جوهر المشكلة هو عدم قدرتنا على ردم الفجوة الرهيبة والهوة السحيقة ما بين الواقع والفتوى، وقد كتبنا وناقشنا موضوع الضرب فى عدة مقالات من قبل ولا بأس من تجميع أهم النقاط وتوسيع مساحة الرد ليكون على الفقه الذكورى عموماً وليس على رجل دين معين حتى يتضح الأمر لكل امرأة أقنعها البعض بأن فى ضربها تأديباً لها كما أقنعوها من قبل بأن فى تعدد الزوجات تكريماً لها: لم يخرج فقيه مسلم واحد عن الطابور فى موضوع ضرب المرأة، فلم ينكره منهم أحد ولم يشذ عالم فرد ليخرج ويقول ضرب الزوجة تحت أى وضع وبأى مبرر خطأ فادح وسلوك مجافٍ للإنسانية والتحضر، حتى أكثرهم استنارة خذلنا وقال قولتهم واتبع منهاجهم وهو الإمام محمد عبده وهو إمام الاستنارة الذى قال عن موضوع ضرب المرأة وهاجم مقلدى الفرنجة الذين يرفضون الضرب كعقوبة «أى فساد يقع فى الأرض إذا أبيح للرجل التقى الفاضل أن يخفض من صلف إحداهن ويدهورها من نشز غرورها بسواك يضرب به يدها، أو كف يهوى بها على رقبتها؟!!!»، ويضيف المصلح الأستاذ الإمام قائلاً «إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر فى العقل أو الفطرة، فيحتاج إلى التأويل، فهو أمر يحتاج إليه فى حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه». أما المفكر الإسلامى عباس العقاد فهو يردد نفس الكلام ولكن بصراحة أكثر حين يقول «يباح الضرب لأن بعض النساء يتأدبن به ولا يتأدبن بغيره، ومن اعترض على إجازته من المتحذلقين بين أبناء العصر الحديث فإنما يجرى اعتراضه مجرى التهويش فى المناورات السياسية»، وبنفس المنطق يتحدث محمد زكى عبدالقادر ولكنه يلبسها رداء علم النفس: «إنه يعجب النساء من الرجال من هو صعب لكى تكسر إرادتها بإرادته مع أنهن يصرخن، يحسسن فى أعماق نفوسهن متعة الضعف تجاه قوة رجالهن». أما المفكر والمؤرخ الإسلامى أحمد شلبى فيتبنى منطق الحرب فى العلاقة الزوجية ويقول «إنه من الحماقة أن يتصور المرء أنه ليس للجنس البشرى عضو يمكن إصلاحه بالضرب، ولماذا لا يحتج هؤلاء على عقوبة الضرب فى الجندية»!! ويتبنى المفكر الإسلامى محمد قطب نفس وجهة النظر العسكرية فى كتابه «شبهات حول الإسلام» ويقول «لا بد من سلطة تقوم بهذا التأديب هى سلطة الرجل المسئول فى النهاية عن أمر هذا البيت وتبعاته، فإذا لم تفلح جميع الوسائل فإننا أمام حالة من الجموح العنيف لا يصلح لها إلا إجراء عنيف هو الضرب بغير قصد الإيذاء وإنما بقصد التأديب، وهنا شبهة الإهانة لكبرياء المرأة والفظاظة فى معاملتها، ولكن ينبغى أن نذكر من جهة أن السلاح الاحتياطى لا يستعمل إلا حين تخفق كل الوسائل السلمية الأخرى»!! ولا أعرف ما هو مفهوم العلاقة الزوجية كما يفهمها هؤلاء الذين يستعملون مصطلحات الحرب والسلاح الاحتياطى، وأيضاً أعترف بجهلى بالفرق بين الضرب بغرض التأديب والضرب بغرض الإيذاء، فليس مطلوباً من العلاقة الزوجية أن تكون حلبة مصارعة أو ماتش ملاكمة بين الزوج والزوجة، وأعتقد أن المرأة المعاصرة المتحضرة لا تعرف هذا الفرق الذى وضعه الفقهاء بين الضرب المبرح المؤذى وبين الضرب التأديبى فهى من الممكن أن تموت بمجرد لكمة، والضربة حتى ولو كانت موزونة بترمومتر الفقهاء وبغرض التأديب هى فى النهاية إهانة لكرامة المرأة وحط من قدرها الإنسانى، وإذا بررنا الضرب بأنه للمرأة المريضة نفسياً فمن الأولى علاجها بدلاً من ضربها، والنقطة المهمة التى تفضح توجهات هؤلاء الفقهاء الذكورية المنحازة إلى الرجل هى تحولهم 180 درجة حين يتحدثون عن نشوز الرجل، يقول نفس المفكر السابق محمد قطب فى نفس الكتاب حين يبرر عدم المساواة بين الرجل والمرأة فى النشوز فيقول «قد يطيب لبعض الناس لأول وهلة أن يطالب بالمساواة الكاملة، ولكن المسألة هنا هى مسألة الواقع العملى والفطرة البشرية لا مسألة عدالة نظرية مثالية لا تقوم على أساس، أى امرأة سوية فى الأرض كلها تضرب زوجها ثم ينبغى لها فى نفسها احترام وتقبل أن تعيش معه بعد ذلك؟، وفى أى بلد فى الغرب المتحضر أو الشرق المتأخر طالبت النساء بضرب أزواجهن»! ونسأل «إشمعنى يا أستاذ قطب تذكرت الآن الغرب واستشهدت بهم، نحن نطالب بالطبيعى وهو عدم ضرب المرأة ولا نطالب بالشاذ وهو ضرب الزوجة للزوج، فلم يطالب أحد بذلك ولكنها البطحة التى على رؤوس أصحاب الفقه الذكورى المنحاز، ولنستمع إلى الرقة والرومانسية التى يتحدث بها مفكر إسلامى آخر هو البهى الخولى فى كتابه «الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة» حين يطالب المرأة بأن تتلطف مع زوجها الناشز فيقول «فإذا كان النشوز من جانب الزوج فلتستجمع المرأة كل حيلتها وذكائها ولتدرس أسباب نفوره فى تلطف وكياسة ولتعالج كل سبب بما يصلحه ولا بأس حتى أن تقبل ما يكلفها ذلك من ألم نفسانى أو جهد مالى أو نحوه بسماحة نفس وطيب خاطر».. يا سلام وياللعجب العجاب!! إشمعنى تطلبون من المرأة طولة البال والعقل وأنتم من تتهمونها بنقصان العقل!، وإشمعنى هى تتحمل الألم النفسى وتكبت مشاعرها فى حين أنه من المسموح للرجل أن يطلق عنان هذه المشاعر لدرجة الضرب، أرجوكم قولوا لنا من هو الأعقل.. الرجل أم المرأة؟، أم ساعة الجد سترجعون فى كلامكم!! • أساس العلاقة الزوجية ومفهومها الذى أؤمن به هو الذى يستند إلى الآية التى تؤكد على الرحمة والمودة «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون»، أما ما نسجه وكتبه الفقهاء عن علاقة الرجل بالمرأة على أن الأخيرة هى ذخيرته الجنسية وعلاقتهما علاقة خادم بمخدوم أو سيد بجارية فهذا مرفوض ولا أتبناه بل أقاومه بكل ما أملك، ولكن إلى ماذا استند هؤلاء فى مسألة ضرب الزوجة لتأديبها؟، استند واعتمد الفقهاء على منطوق الآية 34 من سورة النساء «واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبتغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً»، وبداية كما ذكرنا ميز الفقهاء بين نشوز المرأة ونشوز الرجل، فعلى سبيل المثال اعتبروا المرأة ناشزاً إذا غادرت بيتها لزيارة أهلها أو جارتها بدون إذن زوجها، أما إذا سافر الزوج وغاب فترة طويلة بدون علمها فلا يعد ذلك نشوزاً وليس لها حق التفريق إلا إذا تجاوز الغياب السنة، وإذا امتنعت الزوجة عن الفراش اعتبرت ناشزة أما الرجل فى مذهب أبى حنيفة إذا هجر الفراش وامتنع عن معاشرة زوجته فلا يعد ذلك نشوزاً وتبرير ذلك كما يقول الإمام الرازى فى تفسيره «لأن الزوج لا يجبر على الوطء»، وكذلك لم يعتبر الفقهاء زواج الرجل بامرأة ثانية يحمل أى إساءة نفسية أو نشوز، واعتمدوا فى تبريرهم للضرب كوسيلة تأديب على ما جاء فى المأثور عن النبى الذى قال فى خطبة الوداع «واتقوا الله فى النساء فإنهن عندكم عوان -أى أسيرات - ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف»، وبالطبع تغافل هؤلاء المؤيدون للضرب أحاديث أخرى كثيرة قالها الرسول تناقض ما سبق مثل: - «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها فى آخر اليوم» (صحيح البخارى). - «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمراً ليتكلم بخير أو ليسكت، واستوصوا بالنساء خيراً» (صحيح مسلم). - «أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تكتسون، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن» (سنن أبى داود). - «عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله خادماً له ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئاً» (سنن ابن ماجه). اختلف الفقهاء فى كمية الضرب وكيفيته، وكأن الضرب فى حالة التأديب من رجل عصبى منحه الفقهاء تفوقاً أبدياً وقوامة سرمدية يستطاع التحكم فيه بهذه الدقة التى يتحدثون عنها، وكان أرحم هؤلاء الفقهاء وأكثرهم رقة الإمام الشافعى الذى قال فى تعليماته «الضرب يكون مفرقاً على بدنها، ولا يوالى به فى موضع واحد، ويتقى الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين...ولا يُفضى إلى الهلاك».. منتهى الرقة حقيقى!!، ولم يذكر لنا الشافعى ما هى عقوبة الزوج الذى تفلت يده ببوكس فى الوجه غصباً عنه أو شلوت فى الرحم غصباً عنه أيضاً، هل نعفو عنه لأنه حدث غصباً عنه والله أدرى بالنوايا؟!، وأوصى فقهاء آخرون بالضرب بمنديل ملفوف بدلاً من الكرباج والعصا.... الخ. لجأ المعاصرون من المفكرين المستنيرين إلى أحد حلين لفهم هذه الآية والخروج من هذا المأزق، وكان الحل الأول هو فهم هذه الآية فى نطاق زمانها وبيئتها والوضع الاجتماعى للمرأة حينذاك الذى كان يحمل بقايا البدوية الجاهلية، وهذا المنهج فى الحل يعتمد على عدة سوابق فى الاجتهادات الإسلامية المرنة التى واءمت تطور الزمن والتى كانت توقف العمل بأحكام ذكرت فى آيات قرآنية والأمثلة كثيرة ومتعددة تملأ المراجع الإسلامية، ورفض هذا الحل الأول ناتج عن الخلط بين الحكم الشرعى والعادات والتقاليد العربية، أى بين ما هو دين وبين ما هو عرف فى الجزيرة العربية، والخلط الحادث أيضاً بين الإسلام الذى أنزله الله وبين الفهم القومى لهذا الإسلام أى طريقة تطبيق المجتمع للدين حسب فهمه وتصوره واحتياجاته، فالدين غالباً يدخل ويعجن فى فرن الفهم والتفسير الخاص للمجتمع الذى يدين به، ونحن غير ملزمين بفهم وتطبيق هذا المجتمع لأن ذلك هو نتاج تفاعلهم الخاص مع الدين، فالمجتمع البدوى القديم كان الضرب فيه سلوكاً غير مستهجن، ووضع المرأة كان متدنياً لظروف كثيرة ومختلفة ليس هنا مجال الحديث عنها الآن، ونحن غير مطالبين فى القرن الحادى والعشرين وفى بلد عرف الحضارة والمدنية منذ آلاف السنين أن نتبع ذلك الفهم البدوى بحذافيره ما دمنا لم نخرج عن الأطر والمبادئ العامة التى وضعها لنا الإسلام الحنيف. الحل الثانى هو قراءة مختلفة للآية، وفهم متطور للنص، وقد حاول الكثيرون تطبيق هذه القراءة المختلفة منهم محمد شحرور وسليمان حريتانى والصادق النيهوم وغيرهم من المفكرين المهمومين بفض الاشتباك بين الإسلام والموقف المتخلف من المرأة، واستخدموا غنى اللغة العربية وثراءها فى تفسير هذه الآية حتى تستقيم مع الغايات الكلية للإسلام ومنها تكريم المرأة ومعاملتها كإنسان وليس كجارية واحترام وتقديس العلاقة الزوجية التى لا بد ألا تتحول لساحة حرب، ففهموا معنى الضرب بمعنى آخر غير معناه المباشر، معنى العراك والشجار باليد.. الخ، ولنقرأ التفسير الجديد الذى بالطبع لن يعجب البعض ممن تحولوا إلى كهنة لهم وحدهم حق التفسير، وبالنظر إلى ضرب نجدها كلمة تدل على إيقاع شىء على شىء يترك فيه أثراً، وتختلف فى الاستخدام مثل الضرب فى الأرض سفراً مثل آية «وإذا ضربتم فى الأرض»، وهناك ضرب الأمثال مثل آية «فلا تضربوا لله الأمثال»، وهناك ضرب الخمار «وليضربن بخمورهن على جيوبهن»، وهناك ضرب الناى وضرب النقود، وكلها معانى لا تحمل معنى الضرب باليد أو العصا، ويقال للصنف من الشىء ضرب، وهناك الإضراب عن العمل وهو حجز النفس عن العمل، والإضراب عن الطعام وهو حجز النفس عن الطعام، وعندما نقول ضربت الدولة المتلاعبين بالأسعار معناه هو أن الدولة تتخذ منهم موقفاً حازماً، وهذا هو المعنى الذى تقصده الآية، أى عندما لا تفيد الموعظة والهجر فى المضاجع، أى الهجر مع بقاء الزوج فى الفراش، بعدها يأتى الحل العلنى وهو اتخاذ موقف المقاطعة الاجتماعية، وهذه كلها درجات من التعامل فى حالة الخصام حتى لا نصل إلى الطلاق ونتفاداه بقدر الإمكان، ولذلك لم ينصح القرآن الزوج بالتمادى فى هذا الإضراب الاجتماعى لذلك جاءت الآية التالية مباشرة لتقول «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها»، وكذلك فى نشوز الرجل لا بد من البحث عن الصلح من خلال الأسرة أو مؤسسات المجتمع ككل، فيقول القرآن عن نشوز الرجل «وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير».. مما يؤيد التفسير السابق للضرب بالإضراب الاجتماعى أو الخصام الاجتماعى عدم استخدام القرآن للضرب هنا بتحديد ماهيته ونوعيته باللطم أو الركل...الخ كما عودنا القرآن فى مواضع أخرى، ويضرب د.محمد شحرور أمثلة على ذلك منها الآية التى تقول «فأقبلت امرأته فى صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم»، وصكت هنا تعنى الضرب على الوجه، وعندما قتل موسى الرجل قال القرآن «فوكزه موسى فقضى عليه» ولم يقل ضربه موسى... الخ، وبالطبع لن تجدى هذه المحاولات لقراءة جديدة للنص مع فقهاء قمع المرأة وقهرها لأنهم يؤمنون بأن القدماء قد حسموا كل شىء ولا مجال لاجتهاد، ودائماً سنظل نسمع نفس الأسطوانة المشروخة من ألتراس تقديس التراث والتى تقول «يعنى انتم حتفهموا أحسن من الفطاحل القدماء»، وكأن عقارب الزمن قد توقفت عند القرن الأول والثانى الهجرى، وينسون أن مقياسنا هو الحق وليس الرجال الفقهاء مهما كانت مكانتهم، فلهم الاحترام ولكن ليس لهم التقديس.