عزيزى الأستاذ مفيد، مع شديد احترامى لقامتك الصحفية الكبيرة، وبرغم أننى أقرأ آراءك عن الفن باهتمام شديد، فإننى أقرأ آراءك عن عبدالحليم بتحفظ شديد، فـ«عبدالحليم» لا يوجد له وكلاء حصريون، وقربك من عبدالحليم لا يجعل كلامك عنه مقدساً، ممنوعاً لمسه أو الاقتراب منه، فالقرب لا يعنى الحق والصدق والموضوعية بالضرورة، فالكاميرا لكى ترصد لا بد من بعض البعد، واللوحة لكى تستمتع بها وتحللها لا بد من بعض المسافة، ولذلك مثلاً لم يؤخذ كلامك عن زواج العندليب من سعاد حسنى وكأنه خبر مقدس وتشكك فيه الوسط الفنى والصحفى أيضاً، واعترض عليه كثير من أصدقائه القريبين أيضاً، لك الحق طبعاً فى قوله، ولهم الحق أيضاً فى إنكاره، فالعندليب لا يحتكره أحد، وكما أن هناك صديقاً اسمه مفيد فوزى كتب عن حليم فإن هناك أيضاً منير عامر وهشام عيسى ومحمود عوض وآخرين. قرأت ردك على ما كتبته عن تاريخ الوفاة الحقيقى لـ«عبدالحليم»، الذى كتبت فى مقالى عن اعتقادى أنه يوم اختلف الجمهور وتغير الذوق، وبلغت ذروة هذا التغيير فى أحداث فوضى الصالة يوم أغنية «قارئة الفنجان»، ولا أعرف كيف وصل إليك أن هذا تقليل من قيمة عبدالحليم الفنية، فأنا أعتبر نفسى من ألتراس العندليب ووجدانى كله قد تشكل على ضفاف أغانيه، لكن هذا لا يمنع رصد واقع قد تغير وتبدل، شاهده حليم على الهواء مباشرة، حتى ولو كانت هناك مؤامرة تم استخدام الجمهور فيها، فلماذا لم تنجح تلك المؤامرة من قبل فى استخدام الجمهور كمخلب ينفذ إلى عمق صدر حليم ويزيد من نزفه؟ للأسف، كان عبدالحليم نفسه قد ساهم فى تغيير هذا الجمهور حين داعب غريزة التنطيط والتصفيق والرقص فى الصالة ودعوته إياهم بإشارات يده إلى التخلى عن النمط القديم الرزين الهادئ المتمعن فى الاستماع، فتحول بعضهم من سميعة حفل غنائى إلى قرود فى جبلاية!، وهو نفسه قد أحس بما اقترفه فقال مقدمة طويلة فى بداية الحفل عن أن تلك الأغنية صعبة ومحتاجة تركيز!!، والسؤال هل هى أصعب من «لا تكذبى» لكامل الشناوى أو «لقاء» لصلاح عبدالصبور...؟، لكنه إحساس أن السميعة قد اختلفوا وأن التركيز فى كلمات ولحن الأغنية لم يعد هو الهدف، فالشعار لم يعد «اضبط وكيّف دماغى» بل أصبح «هز وسطى تجدنى»!! أنا لم أعترض على حجم تأثير حليم الأسطورى وإلا ما كنت قد كتبت فى رثائه بعد كل تلك السنوات، ولكنى أكتب بمشرط تحليل اجتماعى لتغير تركيبة مصرية من المؤكد أنها قد أثرت على فن التذوق المصرى للأغنية، وللأسف، ولحظ حليم السيئ، كانت بذرتها فى ذلك التوقيت، قارن بين جمهور عبدالحليم الذى يستمع إليه وكأنه فى قدس الأقداس فى قصيدة «حبيبها» وبينه فى قصيدة «قارئة الفنجان»، التى انقلبت بدايتها لسوق التلات، حتماً هناك شىء قد تغير، وهناك دهشة فى عينى العندليب، وسؤال مؤرق صادم، هل أنا ما زلت أنا أم أن هؤلاء قد تغيروا؟، ألم تسأل نفسك أستاذ مفيد، لماذا تجرأ عليه الفنان سيد الملاح بهذا الشكل، ولماذا تفاعل معه الجمهور لدرجة أنه ضحك وقهقه وشتم حليم وهاجمه واتهمه بالتعالى؟!، لدرجة أجبرت عبدالحليم على الخروج فى برنامج تليفزيونى طويل لشرح الموقف وتبرير العصبية واستعادة بعض الكرامة التى أهدرها المونولوجيست، وهو الذى كان نادر الظهور لا يطلب الاستضافة وإنما يطارَد ويرفض ويتدلل على البرامج والمذيعين، عين حليم كانت زائغة فى هذا البرنامج وكان مهتزاً للأسف، كانت موجة التغيير قد جاءت عالية هادرة، وكان انحطاط الذوق قد بدأ فى التسرب من ثقوب مجتمع انفتاحى استهلاكى، صار الفن عنده رقماً فى بورصة وليس سحراً لروح وسمواً بوجدان وترسيخاً لضمير. يا أستاذ مفيد، التاريخ المكتوب على ورقة تصريح الوفاة فى كثير من الأحيان هو مجرد رقم، مجرد تحلل بيولوجى لخلايا جسد، لكن كثيراً من المبدعين يخونهم الزمن وتتجاوزهم عقارب الساعة ويتغير نسيج ومقاس جمهورهم وتختلف موضة تذوقه، فيكون هذا توقيت موتهم الحقيقى، وأجمل ما نفعله لـ«عبدالحليم» بعد رحيله ليس أن نحوله إلى صنم نقدم له القرابين، أو مشروع استثمارى للنميمة، ولكن أن نجعله نافذة رؤية لتاريخ يتغير ويتحرك ويصعد ويهبط ويجرفنا معه فى مساره الذى لا يعرف الثبات أو السكون أو الموت.