كتاب البخارى الذى نقسم به وندلل من خلاله على صحة كلامنا وصواب عباراتنا، مخففين من أخطائنا وغلطاتنا المباحة فى أى شىء مستباح، بشرط ألا تكون تلك الأخطاء فى حق البخارى، قائلين بأعلى صوت وكل ثقة «هو إحنا يعنى غلطنا فى البخارى؟!»، هذا الكتاب والمعارك حوله تعكس وتلخص مشكلتنا مع التاريخ، فتلك المعارك من الممكن أن تُحسم بقرار فكرى واحد، وهو أن نقول إن البخارى كتاب تاريخ، ننحاز إلى فكرة أنه كتاب تاريخى من الممكن أن يُفحص ببار كود التاريخ، هكذا نريح ونستريح، فكتب التاريخ التراثية، خاصة كتب السيرة، تناولت أحداث زمن الرسول. وحتماً، وفى خلال السرد ومن خلال الأحداث، تعرضت تلك الكتب إلى أقوال الرسول وأحاديثه، لكن كتب التاريخ لم تحصل على تلك القداسة التى حصل عليها كتاب البخارى، وصار من يراجع كتب التاريخ، ومنها كتب السيرة، غير متَّهم بالازدراء أو مكفَّر بالارتداد، بل إن كتاب التاريخ يحمل بعض الأفضلية حين يضع القول فى السياق، فى إطار زمانه ومكانه، متى قيل وما هى الظروف المحيطة؟ لا يعلقه فى الهواء، لا يبتره، لأن هذا القطع وذلك البتر يجعله نصاً مقدساً سرمدياً. وإذا تحدثنا عن معايير الصرامة فى البحث التى يتباهى بها دارسو الحديث، فالسؤال الذى يفرض نفسه: هل المفروض أن يكون كتاب التاريخ ثرثرة بلا صرامة بحث وجهد تنقيب؟ وهل المفروض أن المؤرخ هو تاجر زيف وضلال، أو على الأقل جامع نفايات الحكايات بدون تمحيص؟ وأن الصرامة والتمحيص والتنقيب والحياد هى صفات جينية لا يحملها إلا المحدِّث صاحب كتاب الحديث؟! أما عن الصفات الإيمانية التى يبالغ فى كتابتها من يجعلون أصحاب كتب الحديث فى مرتبة ملائكية وأكثر إيمانية وشفافية من كتّاب التاريخ، فأعتقد أن حسابها عند الله لا عند القارئ أو مُستقبِل الكتاب أو المعلومة. ولا أعتقد أن الطبرى أقل إيماناً من البخارى مثلاً الذى كان يقال إنه يتوضأ ويصلى قبل كتابة كل حديث... إلى آخر تلك الطقوس التى تجعلنا نحترم وسوسته الإيمانية، لكنها لا تجعلنا نقدس المكتوب بعد تلك الطقوس، أو تجعلنا لا نحاسبه تاريخياً أو عقلياً، لأن تلك الطقوس تخص الإمام البخارى نفسه، وله كل الاحترام والإجلال على جهده ككل مجتهدى عصره، ولكنها لا تخصنا كقراء، ولا تجعل ما يكتبه يُترجَم إلى مطلق الصدق التاريخى، لأن كل ما هو جهد بشرى هو نسبى، يخضع للنسبية والنقد، والصح والخطأ. نحن لا نحمل أى كراهية أو عداء أو لدينا مشكلة مع كتاب البخارى على الإطلاق، ولكن لدينا مشكلة مع فكرة التقديس التى تنزع الدسم التاريخى من المحتوى، نحن نشتبك مع كتاب التاريخ لأننا نتعامل مع تاريخ، نعم نتعامل مع أقوال، لكنها تحت مظلة أحداث ومشتبكة مع بيئة ومتفاعلة مع زمن. على سبيل المثال، ولتقريب ما أريد توصيله إلى القارئ، هل لو انتزعت من كتب التاريخ مذكرات القادة والساسة والرؤساء، وقررت أن أجعلها علماً قائماً بذاته منفصلاً عن التاريخ وأسميه «المذكراتولوجى»، هل يجب على الجميع أن ينصاع ويمتثل لهذا القرار؟! مذكرات سعد زغلول مثلاً، وهى ليست عنعنات وإنما بخط سعد زغلول نفسه، هل لأنه هو الذى كتبها يجب علىّ كقارئ ألا أناقش متنها وأراجع مدى دقتها؟ هل يستطيع عميد كلية الآداب أن ينشئ قسماً منفصلاً عن قسم التاريخ اسمه قسم المذكرات مثلاً؟ قرار أن يكون كتاب البخارى كتاباً فى علم الحديث هو قرار بشرى إنسانى، قرار إخراجه من زمرة كتب التاريخ هو قرار قابل للأخذ والرد، لأن العنعنة نفسها ودقتها واعتبارها عموداً يقام عليه علم كامل وأحكام قاطعة ومصائر أمم، هى أيضاً قابلة للأخذ والرد والنقاش، لو وضعنا البخارى تحت الميكروسكوب التاريخى، ولو قبلنا ضمه إلى رف التاريخ فى مكتباتنا، لتم حل المشكلة، ولوصلنا إلى محطة حسم الصراع، ولقللنا حدة الجدل الذى يصل بالبعض إلى طلب قتل المخالف ووصم المنتقد لحديث بالردة والزندقة حتى ولو كان الشيخ الغزالى خريج الأزهر الذى بمجرد أن انتقد بضعة أحاديث فى البخارى فُتحت عليه النار، وتم تأليف عشرات الكتب شتيمة فيه وسباباً له! والأهم أننا لو «أترخنا» الحديث، إن صح التعبير، سننقذ الدين نفسه ونخرج من فخ كثير من الأحاديث المنتقدة بسبب تعارضها مع العلم الجديد أو مفهوم عقيدة أو سلوك نبى أو حتى تناقض داخلى... إلخ. لنأخذ أمثلة تطبيقية من الأحاديث، ولنضعها على شريحة تحت الميكروسكوب فى معمل التاريخ: هل نستطيع نزع البخارى من فترته التاريخية التى عاشها تحت حكم المتوكل وبداية ضعف الدولة العباسية وكراهية الخليفة لمدرسة الرأى وموقف المتوكل الغريب من على بن أبى طالب والحسن والحسين وآل البيت... إلخ، هل قراءة «صحيح البخارى» بمعزل عن تأثيرات المتوكل وموقفه تُعتبر قراءة صحيحة؟ القراءة التاريخية لا التقديسية ستفسر لنا لماذا الأحاديث عن على بن أبى طالب والحسين ليس لها الثقل الذى يتناسب مع المكانة فى نفس الوقت الذى نجد فيه الكفة تميل إلى آخرين جعلهم الصراع السياسى فى مقدمة الصورة، هل نستطيع انتزاع البخارى من ركام المعارف العلمية فى زمنه؟ المعارف العلمية التى تجاوزها التاريخ وصارت الآن، مع المنهج التجريبى، معارف لا علمية، مثل: «إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرنَى شيطان». «فُقدت أمة من بنى إسرائيل لا يُدرى ما فعلتْ، وإنى لا أراها إلا الفأر، إذا وُضع لها ألبان الإبل لم تشرب، وإذا وُضع لها ألبان الشاء شربت». «إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن فى أحد جناحيه داء وفى الآخر شفاء». «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً». «لولا بنو إسرائيـل لم يخبث الطعام ولم يخنـز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر». «ما من بنى آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان». ما هو المصدر التاريخى؟ سؤال يجب علينا حسمه ونحن نناقش البخارى وغيره، عندما أذهب إلى مصدر وأخلط الشخصى بالموضوعى وأرفضه لأنه يتبول قائماً أو يلعب الشطرنج أو يداعب دابة ويضحك عليها ويخدعها بيد خالية من الطعام... إلخ، فلنفرض أن لديه أقوى المصادر أو الوثائق أو الحكايات، مقياسى الإيمانى أو العقائدى ليس هو المعيار، بل المعيار يجب أن يكون قوة ما يمتلكه المصدر من حقائق تاريخية. والسؤال الذى يفرض نفسه: هل تلك المقاييس الشكلية أهم من شخص يأخذ أموالاً من بيت المال أو ينخرط فى حرب ويغالى فى الانتقام... إلخ، هل أرفض الأول لهذه الأسباب الشكلية وأقبل الثانى برغم تلك المخالفات الجوهرية؟ خضوع الشخصيات التاريخية للدراسة السيكولوجية هل هو غير مهم؟ هل عندما ألتزم برواية أن الرسول قد تعرّض للسحر ألا يضر ذلك بصلب الدين نفسه؟! التاريخ الآن تساهم فيه وتشتبك معه عدة علوم أخرى منها الخاص باللغة والاجتماع وعلم النفس ومنها الخاص بالإحصاء... إلخ، هل استخدام الإحصاء مثلاً لمقارنة ما رُوى عن أبى هريرة من أحاديث وما رُوى عن كل الخلفاء الراشدين فى البخارى، هل هو خطأ دينى يلام عليه البحث ويُنتقد؟! هل المقارنات بين اتساق أو تطابق معانى أو مفاهيم حديث وآية أو حديث وحديث والبحث فى تناقض أو تضاد هذا وذاك وبيان ذلك فى بعض الأحاديث يُعد جريمة إيمانية؟! ليس غرض هذا الجزء هو البحث فى كتاب البخارى بالذات، فالمكتوب هو مجلدات ومجلدات فى تلك القضية، لكن الغرض الأساسى هو طرح قضية جذرية بعيداً عن التفاصيل الصغيرة، الغرض توضيح غياب الرؤية التاريخية الديناميكية عن نظرتنا لتراثنا الدينى، وكيف شل هذا الغياب كل قدراتنا العقلية النقدية عن التقدم للأمام والتصالح مع المستقبل.