المؤرخ الإسلامى والباحث فى تاريخ المسلمين هو أكبر شخص بائس ومظلوم على وجه الأرض؛ فالمطلوب منه الدخول إلى التاريخ كجزء من طقوس العبادة، والتعامل مع حكاياته وقصصه من منطلق قبلى بدوى حربى، المعركة فيها صفرية، كلها ملاحم تمجيد، عليه أن يعمل جرّاح تجميل وطبيب تخدير معاً، يخفى قبح بعض الأحداث ودمامتها، ويخدر القارئ لكى يعيش فى جنة الماضى التى بلا رجس أو دنس، المفروض أنه قد درس علم التاريخ الذى أولى أدواته الحيادية، لكن بروده الأكاديمى وصرامته المنهجية من الممكن أن توقعه فى فخ قانون الازدراء وتدخله السجن ويحاكَم بتهمة الإساءة للصحابة، وبرغم أنه مجرد ناقل فإننا نعشق القات التاريخى ونلوكه لنصنع تاريخنا الخاص الذى يناسب أمانينا ويضخم ذواتنا ويجعل الطريق one way إلى الماضى، وإلى الماضى فقط، دون تذكرة عودة، لأنه الأجمل والأفضل والذى لا خطأ فيه ولا خطيئة، التاريخ الصحيح هو ما يذكره رجال الدين من قصص أسطورية جميلة عن التسامح والسلام من على المنابر، وعندما يذكر المؤرخ أن صحابياً قتل صحابياً أو أن خليفةً صحابياً عذب زاهداً صحابياً أو أن أصدقاء الأمس من الصحابيين تلاسنوا فى معارك كلامية عنيفة، عندما يذكر بعضاً من هذا أو حتى يلمسه من بعيد أو يناور بألفاظ مخففة، يتم تكفيره وإعلان الحرب عليه، فما يذكره رجال الدين هو صحيح التاريخ، وما يذكره المؤرخ الموضوعى هو إسرائيليات وتاريخ مزيف، برغم أن المؤرخ اعتمد على نفس المراجع التى اعتمد عليها رجال الدين، لكن تاريخنا الإسلامى هو التاريخ الوحيد الذى تظلله عبارات مثل «المسكوت عنه» و«لاتجادل يا أخى» و«لا تتحدث عن الفتنة حتى لا تفتن الناس فى دينهم»... الى آخر تلك العبارات التى من الممكن أن تناسب أى شىء آخر إلا علم دراسة التاريخ. ومن ضمن العبارات التى وضعت علم التاريخ فى ثلاجة المشرحة بالإضافة إلى انعدام التوثيق أو كراهيته فى مجتمع شفاهى كالمجتمع العربى، الذى جعله جلسات للثرثرة التاريخية لا علم تاريخ، عبارة «الصحابة العدول»، التى عطلت كثيراً جسارة مواجهة الحقائق التاريخية الإسلامية، أو بتحديد أكثر حقائق تاريخ المسلمين، الصحابة لهم كل الاحترام، لكن هل لهم مطلق القداسة؟، هل لم يضعف أحدهم أمام مصلحة، أو اتخذ قراراً بناء على نوازع قبلية أو ثأراً قديماً؟، هل لم تغير أحدهم الثروة؟، هل وألف هل نطرحها لبداية تعامل تاريخى جرىء وموضوعى وعلمى مع هذا الموضوع، نعترف بأنها انتقائية صادمة، لكن لماذا لجأنا إليها؟، للرد على انتقائية تقديسية مضادة على الجانب الآخر تنتزع التاريخ من الأرض لتضعه فى السماء، تجتثه من حقل الطين التاريخى ليحلق فى صوبة الخيال المعقمة الفردوسية، تلك الانتقائية التى تتحدث عن الصحابة كبشر لهم نوازعهم وعثراتهم هى مجرى مختلف تم شقه فى نهر التاريخ الهادر للرد على فيضان التقديس التاريخى الذى سيطر على الأدمغة آلاف السنين. نعترف بأنها انتقائية لكنها الانتقائية التى ستعدل الدفة وتعيد توجيه الشراع حتى يستقر قارب البحث على ضفة التاريخ العلمى الموضوعى الصحيح.. هل المفروض أن يتعامى المؤرخ عن الجمل والعبارات العنيفة المحرضة مثل قول الصحابى طلحة، أحد العشرة المبشرين بالجنة، لمحاصرى الخليفة الصحابى عثمان ذى النورين والمبشر بالجنة أيضاً «إن عثمان لا يبالى ما حصرتموه، وهو يدخل إليه الطعام والشراب فامنعوا الماء أن يدخل إليه»؟! هل المفروض ألا أقرأ الرسائل المتبادلة القاسية بين صحابيين من العدول، وهما على بن أبى طالب، إمام المتقين، وابن عباس، حبر الأمة، وحكايتها باختصار أن أبا الأسود الدؤلى أرسل رسالة لعلى بن أبى طالب يقول فيها إن ابن عباس «أكل ما تحت يده -من بيت المال- بغير علمك»، فى إحدى الرسائل يقول على: «إنى كنت أشركتك فى أمانتى. ولم يكن من أهل بيتى رجل أوثق منك فى نفسى لمواساتى ومؤازرتى، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك كنت تكيد أمة محمد عن دينهم، وانتهزت الفرصة واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الهزيلة، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر غير متأثم، سبحان الله!.. أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟...»؟! كانت نهاية القصة هى رد ابن عباس بأنه يستحق هذا المال وأكثر منه، ثم كانت الرسالة الأخيرة الصادمة: «لئن لم تدعنى من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به»!! هل المفروض أن أسد أذنى عندما أسمع قول أحد العدول عمرو بن العاص، وهو فى ضيعته فى فلسطين عندما سمع خبر مقتل عثمان: «أنا أبوعبدالله إذا حككت قرحة نكأتها، إن كنت لأحرّض عليه حتى إنى لأحرّض عليه الراعى فى غنمه فى رأس الجبل»؟ هل المفروض على المؤرخ أن يتناسى ما حدث لمحمد بن أبى بكر الصديق، الذى ذكره ابن كثير وابن الأثير، بجانب الطبرى، عن أنه قد أُحرق فى جوف حمار ميت فى عهد تولى عمرو بن العاص، وأُرسل رأسه إلى معاوية، وظلت السيدة عائشة أم المؤمنين تدعو عليهما وتحرم على نفسها الشواء حتى ماتت؟! هل المؤرخ لا بد أن يخرس عن توصيف صحابى مثل عبدالله بن أبى جذعه وأن عليه ألا يصفه إلا بأنه صادق من العدول؟ اقرأ الحكاية التالية من المصادر بنفس حروفها عن ذلك الصحابى، وضَعْ نفسك مكان المؤرخ المعاصر الذى ينشد الموضوعية: عن يحيى بن كثير عن عطاء بن السائب قال: كنّا عند عبدالله بن الحارث فقال: أتدرون لمن قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «من كذب علىّ فليتبوأ مقعده من النار»؟ قال: قلنا: لا، قال إنما قال ذلك من قبل عبدالله بن أبى جذعة أتى ثقيفاً بالطائف فقال: هذه حلّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرنى أن أتبوّأ أى بيوتكم شئت. فقالوا: هذه بيوتنا فتبوأ أيها شئت، فانتظر سواد الليل فقال: أتبوأ أى نسائكم شئت، فقالوا: إنّ عهدنا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحرّم الزنا، فسنرسل إليه. فأرسلوا إليه رسولاً فسار إليه وقدم عليه عند الظهر فقال: يا رسول الله أنا رسول ثقيف إليك إن ابن أبى جذعة أتانا فقال: هذه حلّة رسول الله أمرنى أن أتبوأ أى بيوتكم شئت، فقلنا هذه بيوتنا فتبوأ أيها شئت، فانتظر سواد الليل فقال: أتبوأ أى نسائكم شئت. فقلنا: عهدنا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يحرّم الزنا. فغضب رسول الله غضباً شديداً لم أرَ أشدّ منه، ثم أرسل رجلين ليقتلاه ويحرّقاه بالنار... ثم قال: لا أراكما تأتيناه إلا وقد كُفيتماه... فخرج ابن أبى جذعة فى ليلة مطيرة ليقضى حاجته فلدغته حية.. فأحرقه الرسولان. هل مكانة واحد من أهم الصحابة العدول وهو الصحابى خالد بن الوليد تشطب من ذاكرة المؤرخ غارته على بنى جذيمة وقتل الكثيرين منهم مع العلم أنهم كانوا مسلمين وإجبار قلمه على التغاضى عن السبب وراء ذلك وهو أنهم قد قتلوا أقاربه فى زمن الجاهلية! وما المطلوب من المؤرخ وهو يقرأ عن عبدالله بن أبى السرح فى «السيرة الحلبية» (ج3، ص90)، و«السنن الكبرى» للبيهقى (ج8، ص205)، وتفسير البغوى (ج4، ص540)، و«تاريخ الإسلام» للذهبى، ما كُتب عن أن النبى أهدر دم عبدالله ابن أبى السرح، لأنه كان أسلم قبل الفتح، وكان من كتبة الوحى، فإذا أملى عليه النبى: سميعاً بصيراً، كتب عليماً حكيماً أو غفوراً رحيماً، حتى قال إن محمداً لا يعلم ما يقول، وقيل إن النبى أملى عليه «ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين»، حتى قال «ثم أنشأناه خلقاً آخر»، فقال عبدالله «فتبارك الله أحسن الخالقين»، فقال له النبى: اكتبها، هكذا نزلت علىّ، مما جعل عبدالله يقول: إن كان محمدٌ نبياً يوحى إليه فأنا نبى يوحى إلىّ، فارتد ولحق بمكة، وقال لقريش: إنى كنت أصرف محمداً كيف شئت، وقد نزلت فيه آية «ومنْ أَظلمُ مِمَّن افترَى على اللهِ كذباً أَو قالَ أُوحى إلىّ ولمْ يُوحَ إليهِ شىءٌ».. أم يجب عليه فقط أن يذكر وساطة عثمان، أخيه فى الرضاعة، عند النبى للعفو عنه، دون ذكر الردة؟ وهل عندما يبحث المؤرخ عن وصف لما فعله أحد الصحابة العدول وهو حاطب بن أبى بلتعة من تحذير لجيش الأعداء وإبلاغهم بخطة الرسول لفتح مكة، عليه أن يكتب أن تلك الفعلة عدم خيانة للأمانة؟!! لا أعتذر عن الصدمة التى ستحدث للبعض من قراءة تلك الوقائع، فالتاريخ تاريخ بشر، ومن يجب عليه الاعتذار هو من أوهمنا بأن التاريخ تاريخ ملائكة.