تعرض شاعرنا الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى لوعكة صحية استدعت جراحة دقيقة فى مستشفى عين شمس التخصصى، والحمد لله هو الآن فى فترة النقاهة وأطمئن جمهوره وتلاميذه، وأشكر د. محمود المتينى عميد طب عين شمس الذى اهتم عندما تواصلت معه، وبرغم مشاغله الكثيرة كان يتابع كل التفاصيل. أنا من عشاق شعر «حجازى» منذ أن كنت طالباً فى كلية الطب، وبدأت الإبحار فى عالم حجازى وصلاح عبدالصبور، انشغلت كثيراً بالمقارنة بينهما، ضيعت وقتاً كثيراً بلا طائل، وخلصت فى النهاية إلى أنك لا تستطيع أن تفاضل بين طعم التفاح والمانجو، وبين عطر الفل والياسمين، وعندما اقتربت منه على المستوى الإنسانى فى السنوات الأخيرة ازداد إعجابى، فقد حجبت عنا خلافات بعض الشعراء الشبان معه بعد عودته من باريس، وجهه الإنسانى وتخوفنا من الاقتراب من مساحته الخاصة، لكنى كنت قد تعلمت من الزمن أن أغربل آراء المبدعين التى يكتبونها فى لحظات الغضب، أعجبنى فى «حجازى» استقلاليته واعتداده بنفسه، وبالتالى بقيمة المبدع والفنان، حتى فى أزمته الصحية الأخيرة لم يلجأ لتسول الشو أو استجداء الاستعراض من خلال الصراخ على صفحات الجرائد بطلب الإنقاذ من الدولة، برغم أنه يستحق كل الحفاوة والاهتمام، «حجازى» يعيش حياة بسيطة فى الدور الأخير من عمارة بدون أسانسير، يتوكأ على عصاه يومياً وبكل رضا كل تلك الدرجات من السلم المجهد المنهك متخلياً عن أحلام قصر فى كومباوند أو فيلا فى الساحل، لكن أراه أكثر ثراء من كل من راكموا الخرسانات والبنكنوت، أكثر ما أعجبنى فيه مرونته فى قبول إعادة التفكير فيما نعتبره بديهيات، قال لى إنه نادم على الهجوم الذى شنه على «العقاد» فى شبابه حين لم يعترف بما كتبه جيله، وأطلق عليه شعر النثر أو الشعر الحديث أو الشعر المتمرد على التفاعيل القديمة، له آراء لا تعجب أصدقاءه من اليساريين أو الناصريين، ولكنه يعلنها ويتلقى الهجوم الجارح عليها، ولكنه مصر على تلك الاستقلالية، فى فترة إشرافه على مجلة «إبداع» ساهم فى خلق جيل إبداعى متميز وذائقة نقدية جديدة، ما زلت أطالبه بكتابة سيرته الذاتية كتابة على الورق وعلى الشاشة أيضاً، فسيرته فى منتهى الثراء، محطات من الإبداع والعناد والانتصارات والانكسارات، حكى لى الكثير منها، كنت فى كل لحظة أكاد أصرخ وأتساءل: كيف تتركين يا مصر هؤلاء الكبار دون توثيق سيرهم الذاتية الغنية بالتفاصيل التى تعتبر تاريخاً أكثر بلاغة وصدقاً مما يكتبه الأكاديميون؟!، فترة عمله بمجلة «صباح الخير» مع العمالقة، فترة اضطهاد «السادات» وسفره لباريس وهو لا يعرف حرفاً من تلك اللغة الصعبة، وبإرادته الفولاذية صار عاشقاً لجرسها الموسيقى الجميل، صراعه مع خفافيش الظلام، صدمته فى ٦٧ وفى الفكرة القومية، طفولته ومراهقته التى كان فيها التحفظ الريفى الذى كان من المفروض أن يقوده للتزمت الدينى، معركته فى سبيل الاستنارة.. كل تلك المحطات الإنسانية والإبداعية أطالبه بتسجيلها لنا وللتاريخ. سلامتك يا صديقى الشاب صاحب الثمانين ربيعاً.