أنا كمحب للعلم النسبى، لا أثق فى صدق اليقين، وأنا كمحب لسناء البيسى أثق فى صدق رحلتها نحو اليقين، أجمل ما فى كتابها «عالم اليقين» الصادر عن دار «نهضة مصر» هو جهد التجربة وغبار الرحلة، وليس الإجابات والنتائج، نشوته فى مشقة السير المجهدة لا فى كراسى محطات الوصول الوثيرة، غاصت «سناء» الأستاذة الطالبة فى عالم السيرة النبوية وتاريخ الأئمة ومعارك المجتهدين وأماكن القدسية وأسئلة الحيارى، نقبت فى الأشخاص والأفكار والأضرحة وبيوت الرب، تحملت سنين ضنى البحث وسنون صخور المناجم، لكنها دائماً بقلبها المحب الحاضن الشغوف كانت دوماً تكشف الطريق، مصباحها المطل من بين الضلوع لا تنفد بطارياته، رحلة السعى نحو شمعة الضوء فى نهاية النفق رحلة عطش لا ارتواء، لكنه العطش اللذيذ الذى تنعشه مجرد قطرة ندى، كما تنتشى بها زهرة تتفتح فى الفجر، تستقبل أولى قبلات الشمس، سناء البيسى فى هذا الكتاب ومن خلف السطور المعلنة المكتوبة، تكتب على نفس الصفحات بحبرها السرى المعطر، قصة بحثها الشخصى عن اليقين، اللون سر، وقد مس هذا السر سناء البيسى، فاستجابت لنداهة الفن، لتظل حياتها بحثاً دؤوباً ومنهكاً عن سر اللون الموحّد الذى رسم خريطة الدنيا ونقش نمنمات الكون، منذ أن كانت طالبة فى المدرسة، كانت تضبط متلبسة بتلوين كل الأفكار فى كل كتب الدراسة وتحويلها إلى خطوط نابضة بالحياة، اقتحمتها الصحافة المكتوبة، لكنها واجهت اقتحام سن القلم الصحفى الحاد المدبب بطراوة شعيرات ريشة الرسم المرنة الحنون، ظلت منذ أولى خطواتها فى بلاط صاحبة الجلالة لا تقبل التنازل عن سر الفن المقدس أو المساومة عليه، رقصت الباليه على ألحان ماكينات المطابع، عزفت البيانو على أوراق الدشت، كل العيون اتجهت إليها، تريد تأميمها صحفياً، لكنها اختارت أن تحلق مع فنان تشكيلى ثائر متجاوز لكل السائد والمألوف، واجهت الدنيا وعاشت مع ألوان الطيف وذابت فيها عشقاً، واحتفظت بوهج شعلتها الفنية المقدسة، كتبت هذا الكتاب فى فترات استراحتها من تشكيل لوحاتها فى صومعتها، أمام اللوحة وأمام الورق، بالريشة وبالقلم، هى فى رحلة بحث عن اليقين، عن الصدق، عن الحب، عن الجوهر، عن النواة، عن الأصل، ما زالت نشوتها فى السؤال رغم أن عنوان الكتاب يوحى بأنها قد حصدت الإجابات، ما زالت ريشتها القلمية تبحث عن مكامن الضوء فى بورتريه الحياة، وتظلل دمامة القبح فى بعض بقع اللاإنسانية المتناثرة فى خلفية المشهد، تكسر المنظور من فرط ملل الروتين، وتعيد ترتيب المتناثر من شدة الشغف بالإيقاع، سناء البيسى تحاول اختزال الكون فى قنينة ألوان، تجمع كل عبق روائح الدنيا فى زجاجة عطر، ما زالت تبحث عن اليقين فى عالم اللايقين، تحاول عقد معاهدة صلح فى عالم يسوده الخصام، أعشق فى سناء البيسى علامات استفهامها، حتى لو كانت تبحث عن نقاط إجابة، القارئ الذى يظن أنها قد حدّدت وأجابت ما بين القوسين قد خسر الرهان، فهى قد كتبت سطراً طويلاً مفتوحاً لاهثاً من ستمائة صفحة، عليك أن تقرأه بنفس الروح المتسائلة وتشاركها البحث حتى تكسب رهانها المراوغ، جمال الفن فى مراوغته ودلاله وألغازه، وسناء البيسى فنانة حتى لو رسمت بحبر المطابع.