«لن أخلع رداء سربلنيه الله»، هل تلك العبارة الخالدة التى قالها الخليفة عثمان بن عفان، إثر مفاوضات أو مناوشات ومشاغبات الثوار المطالبة بخلعه، كانت هى إشارة الخطر الحمراء التى نبّهت المسلمين إلى أهمية وضرورة فصل الدين عن الدولة، أو على الأقل نبّهتهم إلى ضرورة وضع حدود وقواعد وعدم الاعتماد على مجرد إيمان الحاكم وأسبقية إسلام الخليفة أو درجة قرابته من النبى... إلخ؟ طبعاً مناقشة وتأكيد صحة هذا الأمر، ووزن وتأثير تلك العبارة الفارقة المثقلة بالدلالات الصادمة تحتاج إلى كتب ومجلدات، لكن رد الفعل المبالغ فيه وصل إلى درجة المذبحة التى شهدت ما يندى له الجبين خجلاً من قتل غادر للخليفة بأيدى أناس حفظة قرآن صاحبوا الرسول ومنهم من تربى فى بيوت أكابر الصحابة، وبتر أصابع زوجته، بعد مقدمات قسوة وغلظة حس من منع وصول المياه إليه وسباب صريح يصل إلى أذنيه، ونهايات فيها من التشفى والانتقام ما لا يتناسب مع أتباع دين يدعو إلى الرحمة وتآلف القلوب، فها هى جثة الخليفة حائرة تبحث عن قبر فلا تجد إلا قبراً تائهاً ليهودى مجهول، دفن اختباء ومواراة، لا دفن تكريم وتوقير. لنتجنب الحديث فى تفاصيل الفتنة نفسها، لكن المناخ المحيط هو مناخ صراع بين اقتناع دينى بتماهى شخص الحاكم مع مبعوث العناية الإلهية، واقتناع سياسى بالفصل حتى تتسنى محاكمة مواطن الفساد الإدارى، لكن هل كانت هناك إرهاصات علمانية فى مجتمع الجزيرة العربية الذى كان يعانى وقت الرسالة من فراغ تشريعى وقانونى إلا بعض الأعراف القبلية التى لا تشكل مدونة قانونية مثل مدونة الرومان وقت المسيح، وفى زمن الخلافة الذى شهد توسعات واحتكاكات بحضارات أخرى لقحت نظامه بتلك البذور؟ أم أن الأمر هو صراعات على خلفيات دينية، وأن من أراد إزاحة عثمان قد كان يريد علياً ومن وجهة نظر دينية لا سياسية، وأن العلمانية والإسلام هما كالزيت والماء لا يندمجان، وكما لم يعرف العرب فن المسرح والدراما، فالعرب أيضاً لم يعرفوا التركيبة الدرامية للعلمانية التى فيها تفاعل وكليماكس «ذروة» وهبوط وحل عقدة، عرفوا فقط الخط الدينى الأحادى الذى لا يحتوى على رماديات. حاول جورج طرابيشى فى كتابه «هرطقات 1» أن يجيب عن هذا السؤال، وخلص إلى أن بذور العلمانية كانت موجودة فى الإسلام، وربما بدرجة أكثر وأوضح من الأديان الإبراهيمية الأخرى، فقد تكررت صفة البشرية «إنما أنا بشر» قرآنياً وعلى لسان النبى، وأنه مكلف بإبلاغ الرسالة لا السيطرة السياسية، وإذا كانت عبارة «أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، تُستخدم كمانيفستو العلمانية وبذرة فصل الدين عن الدولة فى المفهوم الغربى المسيحى، فإن طرابيشى يُبرز حديث تأبير النخل وعبارة «أنتم أعلم بشئون دنياكم» كشارة أو «لوجو» أو بذرة جنينية علمانية فى المفهوم الإسلامى. وقارن طرابيشى مؤكداً أن عبارة «أنتم أعلم بأمور دنياكم» أكثر علمانية من «أعط لقيصر»، والسبب أن العبارة الثانية كانت متعلقة بدفع يهود فلسطين للجزية حين حاول الفريسيون اصطياد يسوع بكلمة يتفوه بها ضد القيصر فتتم الوشاية به والتخلص منه، حين سألوه: «أيحل دفع الجزية لقيصر أم لا؟»، ولكن رد الإسلاميين على طرابيشى محفوظ وجاهز، وهو أنه كما كانت عبارة المسيح رداً على ظرف معين فهم يعتبرون أن رد النبى هو رد على ظرف خاص، وإلا ما كانت الأحاديث التى تتحدث عن أدق التفاصيل من كيفية النوم إلى ارتداء الزى إلى تناول الطعام، واعتبار أننا لا نعلم شئون دنيانا وتفاصيلها إلا من خلال تلك الأحاديث، وكما لم يستفد هؤلاء من عبارة «أنتم أعلم بشئون دنياكم» لم ينتبهوا أيضاً إلى دلالة سؤال «أهو الرأى أم الوحى؟»، انطلاقاً من تفسيرهم على أنها عبارة ظرفية مؤقتة، وذلك بالطبع لغرض فى النفس اليعقوبية التى تعشق الدولة الدينية. ويمد طرابيشى الخط ويقول إن المسيحية ظلت روحية لمدة ثلاثة قرون حتى تنصّر قسطنطين، أما الإسلام فظل روحياً لمدة 13 عاماً وهو ما اعتبره مساراً علمانياً مبكراً، وكذلك التمييز بين الآيات المكية الروحية والآيات المدنية التى تداخلت فيها الرؤية السياسية، واقتنص طرابيشى لقطة التعدى على المقدسات مبكراً فى حروب الفرق الإسلامية كدلالة على وجود بذور الفصل بين الروحى والدنيوى، وأنه من الممكن أن تهون تلك الأماكن المقدسة فى سبيل إنقاذ الدنيوى، وهذه وجهة نظر مختلفة وصادمة للعقل المسلم الذى من الممكن أن يقدم رؤية مختلفة لهذه الجرأة على المقدسات وهى سيادة وتغلب الروح القبلية الثأرية وليست التوق إلى العلمانية بمعناها البدائى، لكن هناك ثلاثة أحداث تؤدى قراءتها بعين محايدة إلى تأييد وجهة نظر طرابيشى فى وجود بذور العلمانية فى الإسلام وتغليب الدنيوى على المقدس لصالح إرضاء متطلبات ومتغيرات الواقع السياسى، وأهمية تلك الأحداث أنها تمت قبل الخلافة وفى زمن النبى، أو بالأصح فى نهايات عصره، الحدث الأول ما كتبه الطبرى عن أن الرسول عندما اشتد عليه المرض وطلب حضور على بن أبى طالب، فكان الرد من عائشة «لو بعثت إلى أبى بكر»، ومن حفصة «لو بعثت إلى عمر»، فغضب الرسول وفهم أن كلاً منهما ترشح أباها، وقال «إنكن صواحب يوسف»، إذن هو الدنيوى لا الدينى هو المحرك، الحدث الثانى منقول من «طبقات ابن سعد»، ويحكى عن قبل الوفاة بأربعة أيام، عندما لم ينفذ عمر بن الخطاب طلب الرسول حين قال «آتونى بدواة أو صحيفة أكتب لكم»، وقال: «إن نبى الله ليهجر».. إذاً هو الحفاظ على السياسى بألا يتم توثيق القداسة عليه بوصية. الحدث الثالث هو ما حدث فى سقيفة بنى ساعدة بعد وفاة النبى مباشرة وقبل الدفن، واستخدام ألفاظ لوصف التعدى على سعد بن عبادة من قبيل «وثبوا عليه ووطأوه»... إلخ، لدرجة أن بعضهم ظن أنه قد قُتل، وتذكر بعض الروايات أن عمر قد قال «قتل الله سعداً». ولا بد من التذكرة بأن سيد الأنصار سعد بن عبادة هذا الذى أُطلق عليه «الكامل»، والذى كان يكتب العربية وقت ندرة الكتّاب بها، وكان أول من حطم الأصنام فى قومه، إذاً هو شخص ليس عادياً لكى تتم مواجهته والتعدى عليه بهذا الشكل، وإذاً هو تغليب المصلحة الدنيوية التى، من وجهة نظر أبى بكر وعمر، تنقذ الدولة، بغضّ النظر عن قداسة العلاقة بينهم وبين الأنصار وعبقها الدينى. وظل هذا الفصل محسوساً بعدها بفترة طويلة فى دلالات التفرقة بين ألقاب الخلفاء وحكام المقاطعات فيما بعد، فالخليفة هو المستنصر بالله أو القادر بالله، لكن حاكم المدينة أو المقاطعة هو عماد الدولة أو عضد الدولة، لكن مشروع العلمانية فى الحقيقة ليس تطوراً لبذرة هذا الدين أو ذاك، ولكن ما أحدثه حقيقة وبناه وحققه هو، بتعبير جورج طرابيشى نفسه، «القطيعة المعرفية التى أنجزتها الحداثة، هى التى أتاحت لنا كشف جوانب العلمانية واكتشاف بذرتها». وهذا يعنى أن ثورة الحداثة هى التى ستستحث وتستفز الوعى على اكتشاف تلك البذور الجنينية، إذاً المفروض أن يكون الطريق إلى العلمانية لدى المسلمين أسهل من الأديان الإبراهيمية الأخرى، حيث المفروض ألا كنيسة قرون وسطى تجمع السلطتين، ولكن هيهات، فنحن شعوب الفرص الضائعة حتى ولو قُدمت لنا على طبق من ذهب أو ابتلعناها عصيراً شهياً، فهل نحن أعداء أنفسنا؟.