الكَتَبة كثيرون، والكُتّاب قلة، والكاتب صاحب المشروع عملة نادرة فى زمن الاستسهال، والمفكر المصرى عبدالجواد ياسين ضمن أصحاب المشاريع الفكرية الكبرى، يغزل أفكاره فى هدوء داخل صومعته، بدون ضجيج وبدون شو، أفكار برغم أنها بنت اليوم، لكنها حتماً جنين الغد المرتقب، بعد كتابه الرائع «الدين والتدين»، خرج علينا الدؤوب عبدالجواد ياسين بملحمة فكرية أخرى لا تقل روعة وجدية وتفرداً وأصالة عن سابقتها، كتاب «اللاهوت» الصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، كتاب ضخم يحتاج صبراً وتركيزاً واحتشاداً لقراءته، الموضوع صعب وشائك، والباحث فيه يسير فى حقل ألغام مشتعل، وهو محاط بأسوار بديهيات صنمية، أى خدش فيها هو جرح نرجسى نازف يقابل بهستيريا تمنع أى محاولة لتضميده، محاولة فرز ما هو اجتماعى عما هو إلهى داخل الدين، رحلة لا تكفيها مقالات بمساحة الجريدة، فما بالك بعمود صحفى متواضع محدود المساحة، لكنها محاولة لوضع الخريطة الجينية للظاهرة الدينية فى شريط دى إن أيه مضغوط ومقروء، يفرق المؤلف فى البداية بين اللاهوت المرتبط بالذات والديانة المرتبطة بالجماعة، ويمضى فى رحلة لكشف كيفية تأثر فكرة اللاهوت فى الأديان الإبراهيمية بالمحيط الاجتماعى، وتلاقح الأديان الأخرى السابقة، مثل السومرية والكنعانية والمصرية القديمة، وأيضاً اختلاف فكرة اللاهوت فيها عن الهندوسية والبوذية والشنتو.. إلخ من أديان أو فلسفات الشرق الأقصى، يتتبع تشكل فكرة الله والوحى والنبوة. ثلثا الكتاب الأول فى منتهى الأهمية لفهم الثلث الأخير، لكن هذا الثلث الأخير هو أهم وأخطر ما فى الكتاب وأكثرها التصاقاً وحميمية وهو المتعلق باللاهوت الإسلامى والذى تمنيت لو احتل هو الثلثين، لأنه سيستفزنا لطرح أسئلة مسكوت عنها هى بالنسبة إلينا الآن قضية حياة أو موت فى ظل الفاشية الدينية التى تسكن تحت جلودنا وليست فى كهوف صحرائنا فقط، يطرح فى هذا الثلث الأخير سؤالاً، وهو إلى أى مدى يمكن القول بأن اللاهوت الإسلامى كان نتاجاً للقاح عبرى عربى؟، هل هناك تفرقة بين المرحلة المكية فى القرآن، وهى مرحلة اللاهوت، والمرحلة المدنية وهى مرحلة التشريع؟، هل لغة الخطاب المكية إلى الفرد مختلفة عن لغة المواجهة المدنية؟، عصف الكتاب الذهنى يجعلنا فى مواجهة مع حقائق المفروض أن نبنى عليها قناعات فى تعاملنا مع فكرة الدين، منها حضور التوراة فى المرحلة المكية الذى فيه تناغم لا جدل، كيف أثرت مكة كمركز تجارى به سيولة ثقافية وطقوس قرشية مرتبطة بالكعبة فى الذهنية اللاهوتية الإسلامية؟، ما معنى أن الصلاة نفسها لم تتشكل إلا بعد ثلاثة عشر عاماً من بدء الإسلام، أليس هذا ارتباطاً وتلبية لتطور متطلبات الاجتماع البشرى، وولادة اللاهوت بالتدريج لا مكتملاً منذ البداية؟، ما دور الحنيفية فى اللاهوت الإسلامى؟، كيف نخرج كمسلمين من مرحلة التجميد الدينى التى تلت مرحلتى التدشين والتدوين؟، كيف توسّعت مساحة النص فى السنة والوحى عند الشيعة؟، وكيف حسم «الشافعى» الصراع لصالح الرواية على الرأى؟ كتاب «اللاهوت» ليس مجرد كتاب للقراءة العابرة، ولكن لا بد من عقد حلقات نقاشية وموائد مستديرة وعصف ذهنى فعال حول أفكاره، كتاب ليس لرفوف المكتبة، ولكنه لتلافيف العقل.