صارت الرواية ديوان العرب الجديد، كما وصفها د. جابر عصفور، ولكن أن تجد رواية بكراً فيها إشراقة وحلاوة وطلاوة الطزاجة الإبداعية، غير مقتبسة أو ملطوشة، تحس أنك لم تقرأها من قبل، صارت مهمة صعبة ومنهكة ومحبطة فى ظل التضخم الروائى الذى تفجر فى عالمنا العربى، لذلك انتشيت كطفل اكتشف لعبة جديدة عندما انتهيت من قراءة رواية «الغرق» للروائى السودانى المبدع حمور زيادة، والصادرة عن دار العين للنشر، فأجواء القرية السودانية فى اللحظة التاريخية التى اختارها المؤلف وبحرارتها المنعكسة على كل شىء بداية من العلاقات القبلية الأسرية وانتهاء بالعلاقات الجنسية، تلك الأجواء رسمت خريطة ملحمة درامية من القهر الذى لا يضمد جراحه إلا الونس، ملحمة تلهث أنفاسك وأنت تتابع مسار خيوطها المعقدة الضاغطة الخانقة التى لا ترى لها نهاية، المفروض أن عدسة حمور زيادة تلتقط صورة لقرية «حجر نارتى» فى زمن انقلاب «النميرى»، الظاهر فى مقدمة الصورة صراع عائلتين كبيرتين مسيطرتين، لكن خلفية الصورة ما زال يحكمها مفهوم الرق وتحركها قيم العبودية، اللون الذى يظلل تلك اللوحة القاتمة ويمنحها سرها وغموضها وغوايتها، هو الجنس، استطاع حمور زيادة توظيف الجنس فى الرواية كأبدع ما يكون، لم يغرق فى وصف تفاصيل العلاقة الحميمة بفجاجة تجارية، وظل الحس الجمالى مغلفاً كل أوصافه، كان الجنس محرك الأحداث ووقود تغييرها، فمنذ زمن الرق الذى شطب من على الورق فقط، كانت الخادمة مستباحة الجسد لكل عابر سبيل، منكسرة الروح مهزومة الوجدان، لكن هذا الانكسار وتلك الهزيمة داخل شرنقتها فقط لا يسمح لها بتحويله احتجاجاً، ورثت البنت ثم الحفيدة تلك الاستباحات والانكسارات، صارت آخر عنقود القهر الطفلة الهزيلة التى ينعتونها ببنت الحرام «عبير» صامتة مستباحة من الجميع بداية من أطفال القرية حتى سيدها وممرضها، برغم أن أمها هى ونس القرية يتحلقون فى عشتها لشرب الشاى، يطل الجنس أيضاً فى عائلة الكبار حين تضع السيدة واحدة من الغجر مكانها فى غرفة النوم لتلقى سياط زوجها السادى بدلاً منها ثم تتلقى هى الحضن الأخير، الحب المجهض يظلل أحداث الرواية، برغم رائحة الجنس التى تفوح إلا أن هذا المجتمع المصاب بالشيزوفرينيا يمارس على السطح زيفاً أخلاقياً ويرتدى قناعاً متزمتاً لكنه لا يطبق قانونه المتزمت هذا إلا على الغلابة، فيحرم «عبير» من اسمها ومن مدرستها ومن طفلها باسم الحفاظ على الأخلاق، يجبر إنساناً على الزواج ممن لا يحب حفاظاً على الميراث، مجتمع يحكمه انتظار ما لا يجىء، «فاطمة» التى تنتظر على بحر النيل جثة ابنتها «سعاد» آتية مع أى غريق جديد، تصدق أسطورة أن كل غريق جديد تطفو معه جثة قديمة، وكما كان إلغاء العبودية حبراً على ورق، فالاستقلال أيضاً كان حبراً على ورق، إنهم يتحركون كالدمى لتأييد «النميرى» ورفاقه، وبالأمر، وما زال منهم من يحن إلى أيام الجيش الإنجليزى، ومنهم من يتذكر أيام الملك فاروق، السؤال الذى كان قد طرحه يوسف إدريس فى روايته عن معنى الحرام ما زال مطروحاً حتى هذه اللحظة، يبحث عنه حمور زيادة بمعناه الأخلاقى والسياسى والاجتماعى، «الغريق» رواية مكتوبة بذكاء وجمال ورشاقة، غمس حمور زيادة سن قلمه فى سويداء القلب، فصارت الكلمات نزفاً يفضح نفاقنا المزمن، «الغريق» رواية بديعة تعيد إلينا رائحة الطيب صالح الذى حتماً يطل علينا من السماء الآن مطمئناً إلى أن أرضه الروائية لم يصبها الجدب.