وصلتنى رسالة فى منتهى الأهمية من د. طارق عبدالبارى، الأستاذ بكلية الألسن، جامعة عين شمس، يجيب فيها عن سؤال طالما طرحته، وهو عن المسلم الذى تربى فى أحضان أوروبا، كيف يتحول إلى إرهابى، يقول د. طارق: أحد أخطر الإرهابيين الداعشيين فى العالم ألمانى، واسمه «فريد صال»، وهو صاحب مقطع الفيديو الشهير الذى يقف فيه وخلفه كومة هائلة من الجثث بعضها يقطر منه الدم، وبعضها فى رجفة الموت، والابتسامة ترتسم على وجهه وهو يقول: ما زلت أبحث عن سكين نصلها ميت لكى أقطع بها المزيد من الرؤوس. طرح الكاتب خالد منتصر سؤالاً مهماً: لماذا يكون هناك إرهابيون من الألمان، ولديهم التعليم والنظام والوظيفة والتأمينات الصحية والاجتماعية، وقبل ذلك كله الحريات بأنواعها؟ «اليوتوبيا»! فالمجتمع الألمانى، بانضباطه المعروف، يهيئ لأفراده حلم اليوتوبيا، ويترك لهم حرية تحقيقه. الإرهاب فى ألمانيا ظاهرة ممتدة، ردة فعل «ورجع صدى»، خطورته فى تطرف فكرته وتحولها من أيديولوجيات اليمين المتطرف النازية، إلى اليسار المتطرف، إلى العنصرية النازية مرة أخرى، إلى التطرف الدينى للإسلاميين. ولكل إرهاب يوتوبيا يبحث عنها، يسبقها ثأر دفين. وهناك إرهاب قديم فى السبعينات، وإرهاب جديد فى الألفينات. فمع سبعينات القرن الماضى، ولعقود طويلة، عانى المجتمع الألمانى من تفجيرات وحملات خطف واغتيالات استهدفت رموز الرأسمالية فى الدولة، تقوم بها «جماعة الجيش الأحمر» المسلحة، وهم مجموعة من المتطرفين اليساريين المناهضين للرأسمالية والإمبريالية، اتخذوا الإرهاب وسيلة لتحقيق حلمهم: يوتوبيا العدالة والتحرر. وفى عام 2011 عادت جماعات إرهاب التطرف اليمينى، واستهدفت العرقيات غير الألمانية، فقتلت عائلات تركية وحرقت ممتلكاتها، ليرحل الأتراك وتبقى ألمانيا خالصة للألمان، لأنهم يحلمون بـ«يوتوبيا النقاء العنصرى». ثم جاء ما يسمى «الخلافة الإسلامية»، وانطلق نداؤها من «داعش» 2014، واستيقظت ألمانيا على الإرهابيين الحالمين بـ«يوتوبيا الخلافة» ودولاراتها: الذئاب المنفردة، الخلايا النائمة، الداعشيون (ينتمى نحو 43000 شخص للإسلاميين فى ألمانيا). الإرهاب هنا وسيلتهم للانتقام من السياسات الغربية ضد العرب والمسلمين، فاستباحوا الضحايا بلا حدود. وتصور الحالمون بالخلافة أن مدينتهم الفاضلة على وشك التحقق، فشدوا الرحال إلى سوريا والعراق، وبعضهم بعائلاتهم (قرابة الألف شخص، 20% من النساء). وتبين للمؤسسات البحثية سبب أساسى آخر للإرهاب: «الإقصاء»، واعتبروه جريمة يرتكبها المجتمع فى حق أفراده، وأن كل المزايا الاجتماعية تتلاشى عند كل بيت يشعر سكانه بأنهم مهمشون، وعند كل إنسان يشعر بالضياع والوحدة والغربة وبأنه مظلوم، وأن أكثر وسائل الحماية الاجتماعية فاعلية هى «الاحتضان» (وسموه التكامل وتقبُّل الآخر)، وأن أهم سلاح يحمى المجتمع ويدافع عنه هو «الأذن» التى تصغى لمن يئن قبل أن يُجن..فيصطاده الإرهاب وشباك الإنترنت. أنشأوا مؤسسات كاملة وصناديق دعم ثرية تساعد على تكامل الأجانب واللاجئين داخل المجتمع الألمانى، واخترعوا ثقافة جديدة سموها «ثقافة الترحاب» للقاء الوافدين إليهم من ثقافات أخرى، واهتموا بمشاكل الفكر واللغة والتواصل معهم، ليهوّنوا عليهم قسوة «مجتمع الإنجاز» الألمانى. أنفقوا ملايين اليوروهات، ولكنهم كسبوا ما لا ينبغى خسارته: البشر. ولو أنهم قلصوا تطبيق معايير الغرب المزدوجة داخلياً وخارجياً، وهم أقرب للعدل من غيرهم، لمات الإرهاب على أعتاب دولتهم، ولانسحب الهواء من تحت أجنحة «رجع الصدى» فلا يصلها. إن التحدى الحقيقى للألمان ليس التصدى للإرهاب، ولكن لفكرته التى هى «منفردة» أخطر من كل أهدافها «مجتمعة».