صدر العدد الأخير من المجلة الثقافية المتألقة «الجديد» تحمل عنواناً مثيراً وملفاً مهماً وهو أدب الاعتراف أو السيرة الذاتية، وهو موضوع قد شغلنى منذ فترة وأعتبره مقياساً على مدى نضج المجتمع، ودائماً كنت أتساءل: لماذا أدب الاعتراف لدينا نحن العرب أدب فقير وغالباً ردىء؟!، لماذا هو غالباً تمجيد للذات وتفخيم للكاتب؟، ولماذا تتسع مساحات المسكوت عنه فى حياة المؤلف حتى يصير الكتاب فى النهاية رمادياً أو مثل الماء الصحى المعقم لا طعم له ولا لون ولا رائحة؟، هل لأننا مجتمعات أدمنت الكذب ففقدت حرارة الصدق؟، هل لأننا نخشى البوح ونعشق الظلام والأستار واللفائف والأغطية؟، هل لأن شبكيات أعيننا تآلفت مع الكهوف والأقبية وتتلفها أشعة الشمس؟، وبرغم القليل والهامشى الذى تسرّب فى مصر عبر مذكرات جلال أمين ولويس عوض، على سبيل المثال، فإن القيامة قامت على الأول حين تحدث عن قصة حب أمه لابن خالها، وعلى الثانى لأنه ذكر قصة العقم المتوارث فى العائلة!، الاقتراب من حياة الكاتب بالشوكة والسكين، بسحاحة وترمومتر المعمل، برغم أن تناول الكاتب المصرى لحياته الشخصية مطهرة بالديتول، إلا أن القراء والنقاد لا يتركونه وكأنهم يتطهرون من خطاياهم على جثته، هوجم رجاء النقاش حين نشر الرسائل المتبادلة بين فدوى طوقان وأنور المعداوى، وشُتمت وسُبت غادة السمان حين أطلعت القراء على رسائل غسان كنفانى، كنا قد تعودنا على «الأيام» كنموذج للسيرة الذاتية وصرنا نقيس كل ما يُكتب من سير ذاتية على نفس الكتالوج ونريد تفصيلها بنفس شكل باترونها الروائى، وبرغم كل أطنان الكتب التى صدرت بعد «الأيام»، وبرغم تعدد المدارس والرؤى النقدية الحديثة، إلا أننا ما زلنا داخل شرنقة الخجل من التعرى النفسى أمام مرآة القراء، وما زلنا نفضل كنس أتربتنا الروحية أسفل سجادة الأدب النظيف الخالى من كوليسترول الحقيقة، ما زلنا لا نريد الكشف، مرضى بفوبيا الصدق، برغم أن أجمل التماثيل الروائية تُصنع من زجاج الروح المكسور الذى نلملمه عبر رحلة الحياة، من أخطائنا وخطايانا، نحن لا نكتب رواية لندخل بها الانتخابات ونكسب شعبية سياسية، نحن نكتبها أولاً لنبوح وننوح على الورق، ونصنع عالماً يصدم فيطهر، يحلم فيغير، أنت كروائى يكتب أدب الاعتراف تسكب روحك حبراً على الورقة البيضاء ولا تستعير قناع غيرك أو قلم جارك أو حنجرة شيخك، كن أنت وأنت تكتب حتماً ستلمس وتر القلب.