بذل الباحثون المصريون جهداً كبيراً فى محاولة تحديد البدايات الجنينية للعلمانية المصرية وفى إثبات أن مصر قد عاشت مراحل علمانية متعددة قبل الهجمة التترية الأخيرة التى داهمتنا منذ نهاية السبعينات والتى نكتوى بنارها فى الوقت الحالى، فبعض الآراء ترجع إرهاصات العلمانية الأولى إلى الحزب الوطنى (1879 - 1882) (1)، الذى قاد الثورة العرابية بهدف نقل السلطة من أيدى الأرستقراطية التركية الشركسية إلى أيدى كبار الملاك والتجار الوطنيين، وتستند هذه الآراء إلى البيان التأسيسى للحزب، الذى وضعه محمد عبده، والذى نص فيه على أن الحزب سياسى وليس دينياً، وأن القاعدة فى المواطنة هى من يعيش على أرض مصر ويستظل بسمائها ويحرث أرضها بصرف النظر عن الجنس والدين والعقيدة، ويمضى الرأى فى تتبع العلمانية المصرية ويقول: «إن الحياة الاجتماعية السياسية ظلت بعد ذلك تحت قيادة الفكر الليبرالى العلمانى إلى أن عجزت ليبرالية كبار الملاك فيما بعد الحرب العالمية الثانية عن مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كانت تطرحها ضرورات التطور المستقل فسقطت الليبرالية العلمانية لتحل محلها راديكالية ولكن أيضاً علمانية تمثلت فى النظام الذى أفرزته حركة 23 يوليو 1952 بكل ما أقدمت عليه من إصلاحات اقتصادية واجتماعية وإدارية وتعليمية كان مضمونها العلمى واضحاً تماماً». (2) وقد تم تدعيم بعض جوانب هذا الرأى وملء فجواته من جانب علمانيين كثيرين بغرض إظهار أن هذه الصورة التى نعيشها الآن إنما هى ردة عن واقع متسامح سابق، ولا يهم إن كان الفرق بين الماضى والحاضر كمياً أو كيفياً أو إن كانت علمانية الماضى مجرد قشرة هزيلة لواقع مهترئ، فأما عن علمانية الوفد فقد أبرزوا دور سعد زغلول عند تشكيل أول وزارة مصرية بعد الاستقلال وضمه لخمسة وزراء أقباط، من بينهم وزير للعدل، واستعان د. فؤاد زكريا فى كتابه «الصحوة الإسلامية فى ميزان العقل» بما رواه الأستاذ إبراهيم فرج (جريدة الوفد - عدد يوليو 1989) عن كيف أعرب النحاس باشا للزعيم الهندى نهرو خلال زيارة له عام 1954 عن أمله فى أن تكون الجمهورية المصرية جمهورية علمانية، وفرج فودة (3) أيضاً أعلن أن «النحاس» رفض الدولة الدينية ودعا للدولة العلمانية، وهو ما يصفه فرج فودة بأنه إعلان ثابت بشهادة مكتوبة لا يمكن إنكارها لأنها أتت من إبراهيم فرج وهو من عُرف باسم ابن النحاس.. أما عن المرحلة الناصرية فقد اعتبر البعض أن لب المشروع الناصرى موضوعياً كان علمانياً نتيجة لملابسات عديدة ونتيجة لطبيعة المرحلة التى نشأ فيها المشروع (4). وبعد هذه البراهين التى استمدت من خلال الأحزاب أو النظم السياسية احتاج الأمر أيضاً إلى براهين أخرى من خلال مفكرين تعزى إليهم بدايات التفكير العلمانى أو تنسب إليهم مراحل عافيته وصعوده، مفكرين أمثال «الطهطاوى» حين قال: «حب الوطن من الإيمان» والتى تناقضت مع مقولة عبدالعزيز جاويش: «لا وطنية فى الإسلام»، أو مثل محمد عبده كما ذكرنا فى البداية، أو الشيخ على عبدالرازق حين أصدر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925.. أو طه حسين حين أصدر كتابه «فى الشعر الجاهلى» عام 1926.. أو سلامة موسى حين قال: «إن اختلاط الأديان بالسياسة كان على الدوام مصدر آلام وحروب، بينما السلم والرخاء كانا فى ابتعاد الدين عن السياسة، وإن تعاليم الإسلام والمسيحية تقرران أن الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه وليس لأحد أن يجعل من نفسه رقيباً عليها» (5)، أو المهاجرين الشوام مثل فرح أنطون ويعقوب صروف وأمين المعلوف وجورجى زيدان (6). وبالرغم من هذا الجهد الذى بذله الكثيرون فإن البعض اعتبر على الضفة الأخرى أن كل هذه الإرهاصات المفترضة لم تكن انقباضات مخاض ما قبل الولادة بل كانت رعشات زفرات ما قبل طلوع الروح، وللأسف فالجنين الذى منحتنا إياه تلك المراحل هو جنين مشوه الملامح هلامى القسمات، وإذا كان الانتقاء التاريخى قد جمل الصورة فإن الانتقاء المضاد هو الذى سيظهر دمامة وقبح بعض خطوطها وألوانها وظلالها، وتساءل البعض: أين هى العلمانية من قول سعد زغلول عن كتاب «الإسلام وأصول الحكم»: «قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم فما وجدت ممن طعن منهم فى الإسلام حدة كهذه الحدة فى التعبير على نحو ما كتب الشيخ على عبدالرازق، لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدعى أن الإسلام ليس مدنياً ولا هو بنظام يصلح للحكم؟ (...) وما قرار هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ على من زمرتهم إلا قرار صحيح لا عيب فيه» (7)، أين هى العلمانية من قوله أيضاً عن طه حسين أمام مظاهرة الأزهريين: «هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذى فى الطريق فهل يضير العقلاء شىء من ذلك؟» (8). أين هى العلمانية حين رمى «عبدالناصر» رموز اليسار المصرى فى غياهب السجون ولم يخرجهم منها إلا بناء على تكتيك سياسى وليس بناء على اتضاح للرؤية أو تغيير للاستراتيجية؟، أين هى عندما حافظ على خانة الديانة فى البطاقة الشخصية واتسعت فى عصره كليات العلوم الدنيوية الأزهرية القاصرة على المسلمين؟. إن العلمانية ليست مجرد نصوص قانونية متفرقة أو مواد دستورية متناثرة، وإنما هى روح تسرى فى المجتمع، وهذا الخلط هو الذى جعل شهيد التنوير المصرى فرج فودة يعتبر أن «الدولة التى نعيشها دولة علمانية المبنى والنظام» (9)، ولذلك فأقصى الأمانى لدى الكثيرين أن يظل الحال على ما هو عليه فى مقابل المستقبل المظلم الذى ينتظرنا على أيدى أصحاب الدولة الدينية، أى بمعنى (اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفوش).. حقاً إننا نملك بعض العلمانيين بلا علمانية.. بلا تيار حقيقى يسرى فى نخاع المجتمع، فالعالم العربى الحديث لم يعرف العلمانية قط كجزء من مشروع حضارى أشمل وإنما عرفها حيناً كثقافة تنويرية أو كمجموعة من القوانين المنقولة عن الغرب (10). وهذه فى الحقيقة هى أهم المشاكل التى تواجه العلمانية، مشكلة الأفراد، الجزر المنعزلة التى لا تتجمع إلا لتفترق، تطغى خلافاتهم الأيديولوجية من اليسار واليمين على اتفاقهم المبدئى فيكونون هم أنفسهم حملة أكفان علمانيتهم، ثم تأتى المشكلة الثانية وهى أن العلمانية المصرية حتى الآن لم تؤسس مشروعاً وإنما هى REFLEX أو ردود فعل، كما نلمس عضلة الضفدعة هكذا بقطب كهربى فتنقبض، هكذا كانت العلمانية.. مقال ينشر فى جريدة فيرد العلمانيون، حدث يجرى فى جامعة فيهب العلمانيون.. وردود الفعل هذه مطلوبة بالطبع وبشدة، لكن المفروض أن تكون أحد جوانب الصورة لا أن تحتل كل الصورة بل فى بعض الأحيان الإطار أيضاً.. وحين نرفع شعار «العلمانية هى الحل» فلا بد من أن ندفع ثمن هذا الشعار كما دفعه الغرب منذ قرون جهداً ودماء، فالعلمانية لا تقدم على طبق من ذهب أو تهبط هبة من السماء، وأعتقد أننا ندفع الثمن حالياً فإما أن نشترى المستقبل أو نقع غرقى ديون الماضى إلى أبد الآبدين. المراجع 1- مكتبة مدبولى، مجلة فكر - عدد فبراير 1985 ص 5 الافتتاحية 2- المصدر السابق ص 6 3- د. فرج فودة، مصدر سابق ص 14 4- د. جلال أمين - مجلة فكر نفس العدد السابق ص 54 (حوار) 5- فريدة النقاش - مجلة اليسار عدد 38 ص 72 6- محمد عبدالسلام الشاذلى - تطور الفكر العربى - سلسلة المواجهة - الفصل الثالث 7- د. غالى شكرى - النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث ص 244 نقلاً عن كتاب سعد زغلول «ذكريات تاريخية طريفة» 8- صلاح عيسى - الكارثة التى تهددنا ص 21 9- د. فرج فودة، مصدر سابق ص 21 10- د. غالى شكرى، أقنعة الإرهاب ص 15